loader
 

كوارث في الفكر الإسلامي التقليدي تكشفها الأحداث.. وسبيل الخلاص

مسألة الترحم على غير المسلم، التي أثيرت مؤخرا، إثر اغتيال الصحفية المرحومة شيرين أبو عاقلة، ليست إلا جزءا يسيرا – أو كما يقال في المثل "من الجمل أذنه" - من كوارث في الفكر الإسلامي التقليدي، التي لا يعرفها عامة الناس، ولا تتيسر لهم المعرفة إلا بعد ارتباطها بأحداث.
ولعل هذا من الجوانب الإيجابية التي ترافق كوارث وشرورا تلحق بالأمة، فالله تعالى يجعل فيها الخير في النهاية؛ {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (النور 12) لكي تتبين للناس الحقائق التي ما كان يمكن أن تبرز وتتضح بمجرد الشرح والتنظير
فالذين يحرِّمون الترحم على غير المسلم هم أنفسهم يؤمنون بأن الإسلام قد حرَّم مجرَّد إلقاء السلام على اليهود والنصارى، وأنه قد اعتبر مصادقتهم موالاةً؛ وهي من أكبر الكبائر، وأن الواجب أن يبرأ المسلم من غير المسلم حتى لو كان أباه أو ابنه أو أخاه، وعليه أن يحذر من أن يودَّه أو يحبه لكي يسلم إيمانه، وعليه أن يعلن له أنه يبغضه لينال رضى الله عز وجل!
هؤلاء يقولون إن التعاون مع غير المسلمين لا يجوز حتى في أبسط الأمور الحياتية اليومية؛ كأن نبري لهم قلما أو نحمل دواة أو نغسل لهم غسيلا أو نعطيهم جذوة من نار ليتدفأوا بها أو ينتفعوا بها! ويرون الإقامة في ديار الكافرين حرام. والقائمة تطول فيما يجب ولا يجب ليكون المسلم مسلما عندهم، وليس أدناها أن الذي يؤجِّر حلاقا في عقاره يحلق لحى الناس فقد باء بغضب من الله، وقد يخرجه هذا من الإسلام! والعديد العديد من الأمور التي قد لا يصدق القارئ أن هناك من يقول بها.
وهؤلاء يرون أن الإسلام قد جاء بالسيف ليرغم الناس على تأدية فروض "توحيد الألوهية" الذي سُلَّ من أجله السيف، والذي يقتضي أن يعلن الناس إسلامهم، ويؤدوا صلواتهم، ويدفعوا زكاتهم، وإن امتنعوا فليس لهم سوى السيف! ويستثنى من ذلك النصارى واليهود الذين يمكن أن يحتفظوا بدينهم، ولكن بشرط أن يدفعوا الجزية ويعيشوا حياة الذلة والصغار! أما غيرهم، فلا يُقبل منهم سوى الإسلام. ويقع في ذلك كل من يخالفهم من المسلمين، بل يقتضي فكرهم أن يتعاملوا معهم بصورة أسوأ من الكافرين؛ لأن للكافر أو المشرك مخرجا لو استجار بالمؤمنين ولم يؤمن، فيمكن أن يجيروه ثم يرسلوه إلى مكان آخر، ولكن المهم أنه لا بقاء له بينهم. أما المسلم الذي يخالفهم فهو مرتد حلال الدم والمال والعرض، لأنه ليس مشركا في الأصل، بل قد كفر وأشرك بعد إيمانه ولا بد أن يلقى عقابه على ذلك.
أما كيف ينقض المسلم – أو من يدعي الإسلام في نظرهم – إسلامه ويصبح مرتدا؟ فقد أوجدوا نواقض لا يمكن أن تخطئ أحدا، ولا بد أن يكون كل مسلم منقوضا إسلامه بواحدة من هذه النواقض أو أكثر.
والواقع أن هذا الجنون غير قابل للتطبيق في حياة المسلم العادي، كما أن بعض الأحكام الإسلامية تجعل من تطبيق هذه الحماقات أمرا متعذرا غير واقعي. فإذا كان الإسلام يجيز الزواج من الكتابية المسيحية أو اليهودية، فكيف سيتزوج بها المسلم ولا يعلن لها أنه يحبها؟ بل يجب عليه كلما رآها أن يعلن أن يبغضها في الله! هل ستكون زوجته ورفيقته أم يجب عليه أن يتبرأ منها كي يسلم إيمانه؟
وكيف يتعاون معها وتتعاون معه في أمور الحياة اليومية والتعاون مع غير المسلمين حرام؟ وماذا يفعل إذا توفيت وماذا يفعل أولاده وأولادها؟ هل سيترحمون عليها ويدعون لها في صلواتهم؟
وبالطبع، فهناك سخافات مثيرة للسخرية يقدمها بعضهم حلولا؛ فمنهم من يقول إنه يجب ألا يقول لزوجته "أحبك" بل يقولون بكل وقاحة وصفاقة أن عليه أن يقول "أشتهيكِ"!
ويقولون: صحيح إنه يجب ألا نحبهم وألا نواليهم، ويجب أن نتبرأ منهم، ولكننا يمكن أن نبر غير المسلمين، ولكن لا ينبغي أن نحبهم، بل يجب أن نبغضهم! فأي برِّ هذا لمن تبغض وتعلن له البغض في وجهه؟
ولم تفلح ولن تفلح محاولة تجميل أو عقلنة لهذا الجنون الهمجي الذي يقدمونه
أما فيما يتعلق بالسياسة، فهم يحلمون بدولة توسعية إسلامية يحكمها دكتاتور يسمى "خليفة" وتسعى لفرض الإسلام على الناس، ولا تعرف حدودا حتى تحيط بالعالم كله. وفيما يتعلق بالأوضاع القائمة، فهم لا يقبلون إلا حكم حاكم مسلم. وإن كان قطاع منهم يحرمون الخروج عليه – بسبب قوة الأدلة على ذلك- إلا أنه من السهل أن يعلنوا كفره فينقلبوا عليه بحجة نقضه ناقضا من نواقض الإسلام. وقد مارسوا ويمارسون نفاقا تاريخيا في هذه المسألة. وقد ظهر ذلك فيما سمي بـ "الربيع العربي" إذ تحول الحكام الذين كانوا قد مدحوهم وأشادوا بهم ودعوا إلى التعاون معهم إلى كفارٍ، دمهم حلال، وعلى الناس أن يقتلوهم وهم سيحملون هذا الوزر عنهم في رقابهم.
وقد يقول البعض إن ما قلتُه لا ينطبق إلا على فئة متطرفة من المسلمين اليوم، ويقصدون بذلك غلاة السلفية. ولكن الواقع أن معظم هذه المبادئ - وخاصة النظرية الأساسية في إقامة الخلافة ونظام الحكم والسياسة والجهاد العدواني، وكثير من الأمور الشاذة القائمة على معاداة غير المسلم وأساليب التعامل معه نابعة ومرتبطة بهذا الأصل الفاسد- معظمها لا يختلفون عليها في الحقيقة، ولا يتملصون منها إلا بنفاق فكري أو عملي يبررونه لعدم مقدرتهم القيام بما يؤمنون به. فعلى سبيل المثال، نرى في متن "جوهرة التوحيد" لإبراهيم اللقاني، والتي هي قصيدة جمعت مبادئ التوحيد وتعتبر متنا رائجا أساسيا يتداوله الأشاعرة نراه يقول فيها:
الحَمْدُ لِلّهِ عَلَى صِلاَتِـهِ ...... ثُمَّ سَلاَمُ اللهِ مَـعْ صَلاَتِـهِ
عَلَى نَبِيّ جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ ..... وَقَدْ عَرَى الدِّينُ عَنِ التَّوْحِيدِ
فَأَرْشدَ الخَلْقَ لِدِينِ الحَقِّ ...... بِسَيْفِـهِ وَهَدْيِـهِ لِلـحَـقِّ
فالسيف عندهم وسيلة سبقت الهدي لإرشاد الناس إلى دين الحق!
فما علاقة السيف بالهداية أصلا؟
المؤسف أن هؤلاء لم يعوا حقيقة عرفها المنصفون من غير المسلمين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلجأ للسيف إلا اضطرارا ودفاعا وإرساء للعدالة. ولذلك جاء في لوحة جدارية منحوته في المحكمة العليا في أمريكا نحت للنبي صلى الله عليه وسلم بين شخصيات أخرى، وظهر في يده القرآن الكريم مكتوب عليه بكلمات عربية، وفي يده الأخرى يمسك السيف مقلوبا من نصله، وليس من قبضته، ومعلوم أن إمساك السيف بهذه الطريقة قد يؤذي اليد، وفي هذا إشارة إلى أن السيف ليس مشهرا للقتال، بل هو لإرساء العدالة، وأن الذي يحمل العدالة ولا ينوي العدوان سيتضرر أيضا بموقفه هذا. فسبحان الله.. ما أروع هذه اللوحة وما جاء فيها من إشارات! وكيف عرف هؤلاء حقيقة الإسلام وغابت هذه الحقيقة عن غالبية مدارس الفكر الإسلامي اليوم، بل يمكن القول عنها كلها، سوى الجماعة الإسلامية الأحمدية، بفضل الله؟ وكل من يحاول الترقيع من نجوم الإعلام أو التواصل الاجتماعي إنما يحوم حول الحقيقة ويقترب من موقفنا مضطرا، ولكنه مبدئيا لم يستطيع ولن يستطيع أن يخرج عن مبادئ هذه المدارس التي يراها أسسا راسخة.
أستطيع أن أقول بكل ثقة، وأقدم تحديا لهم جميعا، أن الجماعة الإسلامية الأحمدية وحدها مبرأة تماما من هذه الأمور التي ألحقت بالإسلام، وذلك على أسس فكرية عقدية راسخة، ووفقا لأدلة قاطعة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولم تخضع يوما ولن تخضع لظروف، ولم تغيِّر الجماعة الإسلامية الأحمدية موقفها، مهما كلفها الأمر؛ ولم ترغب بإرضاء أحد يوما، ولم تخشَ غضب أحد. فمن أهم ما قدمناه وأثبتناه بأدلة قاطعة أن الإسلام لم يقم مطلقا على القوة والجبر، وأنه لا يسعى للانتشار بقوة السيف، وأن الإسلام الحق ليس إلا التفاني في العبودية لله تعالى والانصياع لأوامره خدمةً للإنسانية كما يقول الله تعالى:
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 113)
فالمسلم هو الذي يتفانى في عبودية الله؛ والتي تعني أن يتمثل صفاته التي على رأسها الرحمة بالعباد، وأن هذه العبودية تقتضي أن ينفِّذ المشيئة الإلهية في خدمة الإنسانية ومواساتها بكل القوى والنعم التي يحوزها المسلم، كما أن الله قد أنعم على البشرية بالنعم العظيمة رحمة وفضلا.
أما هم فيرون أن الإسلام دين عنصري جاء ليحوز أتباعه حصرا الخير في الدنيا والآخرة، وأن غير المسلمين محرومون من الرحمة، وأن الواجب على المسلمين أن يضيقوا عليهم لينضموا إلى المسلمين أو يحيلوا حياتهم إلى جحيم حتى ينتقلوا إلى الآخرة فيلقوا جميعا في الجحيم الأبدي! فما أبشعها من صورة! وما أبعدها عن الحقيقة!
إن إدراك حقيقة الإسلام هذه التي نقدمها كفيل وحده بنقض جميع ما نحتوه ونسبوه إلى الإسلام العظيم الجميل من أفكار مقيته بغيضة.
وينبغي ألا يستغرب أحد من هذا الواقع، فقد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عنه، إذ قال:
{بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ} (صحيح مسلم، كتاب الإيمان)

فلا غرابة أن يكون المسلمون بهذه الكثرة، وهم غرباء عن الإسلام وعن حقيقته، والإسلام غريب عنهم. ولكن فئة، وإن صغرت حاليا، كانت ولا زالت تحمل لواءه الحق، وإن بدت غريبة، فطوبى للغرباء. وسيأتي اليوم الذي سينبلج فيه الفجر وتطلع الشمس وسيتوارى الظلام، ويرجع الإسلام عزيزا، ويبلغ ما بلغ الليل والنهار بجماله وجلاله. إن غدا لناظره قريب، إن شاء الله تعالى. 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة