بسم الله الرحمن الرحيم
الأرض المقدسة.. ميراث الصالحين
من تراث حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه
لن يدوم احتلال إسرائيل للأرض المقدسة
هذه هي بارقة الأمل الأولى التي يضمد بها القرآن الكريم قلوب المحزونين حيث قال تعالى:
]وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَن الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[.
حيث بين الله تعالى هنا أننا كتبنا في الزبور أن الأرض المقدسة سيرثها عبادي الصالحون، فلا ينبغي أن يغتر أحد لدى احتلال بني إسرائيل لهذه البلاد، فإن عباد الله الصالحين لا بد أن يصبحوا غالبين على تلك الأرض ثانيةً وإنْ خرجت من أيديهم لفترة، حيث قال الله تعالى ]إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين[، أي يا محمد بلِّغْ هذه الرسالة المسلمين ونبِّههم أنه سيأتي زمن سيحتل فيه بنو إسرائيل هذه الأرض مرة أخرى.
لقد ذكر الله تعالى هنا كلمة ]عابدين[ إشارةً إلى نبوءة داود u حيث قال لرسوله r نبِّئْ عبادي وحذّرْهم بأنهم إذا ما تهاونوا في أن يكونوا عبادًا لي فإن الله تعالى سيأتي باليهود إلى هذه البلاد. وإذا حصل ذلك فعلى المسلمين أن يصيروا قومًا عابدين ثانية، ليصبحوا غالبين تارة أخرى، وليتذكروا أن رسول الله r رحمة لكل العصور، ولا ينتهي عصره عند استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، بل إن عصره r ممتد إلى ما بعده أيضًا؛ فلا داعي للقنوط، لأن رحمة الله ستفور ثانية، فيصبحون غالبين على فلسطين مرة أخرى.
نبوءة الزبور عن الأرض المقدسة:
إن نبوءة الزبور التي تشير إليها هذه الآية هي كالآتي:
"لا تَغَرْ من الأشرار، ولا تحسُدْ عُمّالَ الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطَعون، ومثل العُشب الأخضر يذبُلون. اتَّكِلْ على الرب وافعَلِ الخيرَ. اسْكُنِ الأرض، وارْعَ الأمانةَ، وتَلذَّذْ بالرب، فيعطيَك سُؤْلَ قلبِك. سَلِّمْ للربّ طريقَك، واتّكِلْ عليه وهو يُجرِي، ويُخرِج مثل النُّور بِرَّك، وحقَّك مثل الظهيرة. انتظِرِ الربَّ واصبِرْ له، ولا تَغَرْ مِن الذي ينجَح في طريقه مِن الرجل المُجري مكايدَ. كُفَّ عن الغضب واتْرُكِ السَّخَطَ، ولا تَغَرْ لفعل الشرّ، لأن عاملي الشرِّ يُقطَعون، والذين ينتظرون الربَّ هم يرِثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشريرُ. تطّلعُ في مكانه فلا يكون. أمّا الوُدعاء فيرثون الأرضَ ويتلذذون في كثرة السلامة." (المزامير 37: 1 - 11)
ثم ورد فيما بعد: "الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد." (المرجع السابق: فقرة 29).
وراثة الأرض المقدسة وعد مشروط بالصلاح:
يتضح من هذه النبوءة أن هذا الوعد الذي قُطع مع بني إسرائيل في الزبور كان وعدا مشروطًا بشرط البر والتقوى والصلاح، فقيل لهم صراحة بأنهم لو تمادَوا في الشر سادرين في سيئاتهم فسيُنزع منهم هذا المُلك. وقد حذّرهم موسى u من التمرد والعصيان فقال: "وكما فرِح الربُّ لكم ليُحسن إليكم ويكثّركم، كذلك يفرح الرب لكم ليُفنيكم ويُهلِككم، فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها. ويبدّدك الربُّ في جميع الشعوب مِن أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبُد هناك آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك مِن خشبٍ وحجرٍ." (التثنية 28: 63 - 64)
ولكن الله تعالى أخبر موسى u أيضًا أن بني إسرائيل لو غيّروا ما بأنفسهم فسيُرحَمون. فقد ورد: "يرُدّ الربُّ إلهُك سَبْيَك، ويرحمك ويعود فيجمَعك من جميع الشعوب الذين بدّدك إليهم الربُّ إلهُك". (التثنية 30: 3)
نظرة تاريخية .. ونبوءة دمار بني إسرائيل مرتين
لقد أخبر الله تعالى بني إسرائيل على لسان موسى u أن الأرض المقدسة سوف تُنـزع من أيديهم مرتين، وذلك بعد أن يتجاوز شرهم الحدود، قال موسى عليه السلام: "أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس... فرأى الربُّ ورَذَلَ من الغيظ بنيه وبناتِه وقال: أحجُب وجهي عنهم، وأنظُر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيلٌ متقلبٌ. أولادٌ لا أمانةَ فيهم... أجمَعُ عليهم شرورًا، وأُنْفِذُ سهامي فيهم، إذْ هُمْ خاوُون مِن جوعٍ، ومنهوكون مِن حُمَّى وداءٍ سامٍّ. أُرسل فيهم أنيابَ الوحوش مع حُمَةِ زواحفِ الأرضِ. مِن خارجٍ السَّيفُ يُثْكِلُ، ومِن داخلِ الخُدور الرَّعْبةُ. الفتى مع الفتاة، والرضيعُ مع الأشْيَبِ." (التثنية 32: 16 - 25)
إذًا فإن الله تعالى قد أخبر بني إسرائيل على لسان موسى u بدمارين يحلان بهم، مبينًا لهم أنهم لن يحكموا هذه البلاد حكمًا أبديًّا، بل سيحكمونها أولاً ثم يُنفَون منها، ثم تقع في قبضتهم ثانية، ثم يُنفون منها تارة أخرى.
سورة الإسراء ونبأ دخول بني إسرائيل الأرضَ المقدسة مرتين
أمَا وبأيِ روعة تحقّقَ وحي الله هذا، فيتضح لنا ذلك بقراءة سورة بني إسرائيل (الإسراء) في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى: ]وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا[ (الإسراء: 5 - 7)، أي نأمر قوما يملكون قوة عسكرية عظيمة، "فجاسوا خلال الديار"، أي سيقتحمون مدن فلسطين كلها وستُمزّق حكومتكم، أي سننزع منكم هذا العقار لبضعة أيام. إذًا، هذا الأمر مشروط.
؟؟؟
]ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ[ أي سنعيد إليكم هذا العقار مرة أخرى بعد فترة وجيزة وسنقيم قوتكم. ]وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا[. أي سنقويكم وسيعود إليكم هذا العقار مرة أخرى.
ثم ننزعه منكم مرة أخرى عندما يأتي الوعد الثاني.
أما الوعد الثاني فيقول الله تعالى عنه ]فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[ (الإسراء: 8 - 9) .. أي حينما جاء موعد تحقق وعد المرة الآخرة حقّقْنا هذه النبوءة أيضًا، فأعطينا هذه البلاد مؤقتًا لقوم ليسوّدوا وجوهكم ويذلّوا أعزّتكم، ويَدخُلوا المسجدَ كما دخلوه المرة الأولى وينتهكوا حرمته، ويدمّروا كل شيء وكل منطقة تدميرًا.
ولكن ليس بمستبعد أن يرحمكم ربكم، أي أننا سنقرر عندها بإرجاع هذه البلاد، ولكن الله تعالى لم يقل هنا أنه سيرجعها إلى اليهود، بل قال ]عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ[.. أي يزيل عنهم وصمة عار لحقت بهم في العالم، أما إذا عادوا إلى شرورهم الأولى فلا بد أن نعود نحن أيضًا إلى سنتنا، فنعذبهم وننـزع هذه البلاد منهم، وقد أعددنا جهنم سجنًا للكافرين.. أي سنجعل جهنم سجنًا لكم، أي لن تستطيعوا العودة إلى هذه البلاد بعد ذلك.
كيف تحقق النبأ القرآني بكل جلاء
لقد تبين من هذه الآيات أن الله تعالى كان قد وعد بأن بلاد فلسطين سيملكها عباد الله الصالحون. وبما أن هذا الوعد قُطع لليهود أولاً فنالوا هذا المُلك، ولكن الله تعالى قد وضع بعض الشروط عند منحه هذه البلاد لليهود، وقال إنها ستبقى في قبضتكم لفترة من الزمان، ثم تُنـزع منكم. وبالفعل جاءت الجيوش البابلية، فدمرت المعابد، وأبادت المدن، واستولت على البلاد كلها، واستمر حكم البابليين عليها قرابة قرن ونصف قرن من الزمان (الملوك الثاني 24: 10 - 17، وأخبار الأيام الثاني 36: 20 - 21، والموسوعة اليهودية مجلد 9: Nebuchadnezzar). ثم تغيرت الحكومة، فاستولى اليهود على البلاد ثانية.
ثم بعد المسيح u هاجم الرومان البلاد ودمروها تدميرًا. كما خربّوا المسجد، وذبحوا فيه الخنـزير. واستمر استيلاؤهم على هذه البلاد طويلا، وأخيرًا تنصَّرَ الملك الرومي نفسه. ولذلك لم يقل الله تعالى هنا إننا نُرجع هذه البلاد لليهود بعد ذلك، بل قال ]عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ[.. أي سنـزيل عنهم وصمة عار لصقت بهم. فلما أصبح الملك الرومي مسيحيًّا صار يؤمن بموسى وداود وغيرهما من أنبياء اليهود. كان ذلك الملك مؤمنًا بعيسى في الحقيقة، ولكن بما أن عيسى u ينتمي إلى الأمة الموسوية فبدأت الحكومة الرومانية تحترم أنبياء اليهود الآخرين أيضًا. كما احترمت التوراة، بل اعتبرتها كتابًا مقدسًا لها. وكأن الله تعالى شمل اليهود بالرحمة.
ولكن الله تعالى يقول بعد ذلك ]وإنْ عُدْتم عُدْنا[.. أي أنكم لو فسدتم وعملتم الشر بعد ذلك، فسننزع هذا المُلك من أيديكم، أي عندها سيأتي المسلمون وتقع هذه البلاد في قبضتهم، ويصيرون مصداقًا لقوله تعالى ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[، عندها ستُخلق لليهود الجحيم التي يصلَونها دائمًا.
سيطرة البابليين على فلسطين:
في وعد الدمار الأول بقي هذا العقار عند اليهود لفترة ولكنه نزع منهم بواسطة البابليين. وبالفعل جاء جيش البابليين ودمّروا المعابد ودمّروا المدن وسيطروا على البلد وحكموا قرابة مئة عام. ثم تغيرت تلك الحكومة وسيطر اليهود على البلاد.
سيطرة الرومان على فلسطين:
ثم تحقق الوعد الثاني بسيطرة الرومان، وذلك حين هاجم الروم هذا البلد بعد المسيح u ودمروه، وكذلك دمّروا المسجد وذبحوا فيه الخنزير وظلوا مسيطرين عليه ولكن تنصّر ملك الروم الأخير لذا لم يقل الله هنا أن هذا العقار سيعاد إلى اليهود بل قال أولا إنه سيعاد، أي سيُستَعاد منهم ويُعطى لليهود ولم يقل بعد ذلك إنه سيُعاد بل قال بأننا سنرحمكم أي ستُزال منكم وصمة الإهانة. إذًا، حين تنصّر الملك الرومي آمن بموسى وآمن بداود وكذلك بالأنبياء الآخرين جميعا وآمن بعيسى u أيضا. ولما كان عيسى تابعا للسلسلة الموسوية وكانت الحكومة المسيحية تحترم أنبياء اليهود وتحترم التوراة بل تحسبها كتابا مقدسا لها، وكأن رحم الله نزل بهم ونال المسيحيون الحكومة ولم ينلها اليهود.
نبوءة سيطرة المسلمين على فلسطين:
يقول الله تعالى: ]وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا[ (الإسراء 9) أي إذا فسدتم مرة أخرى فسننزع منكم هذه الحكومة. لقد انضم إليكم الآن المسيحيون أيضا لأنهم كانوا حزبا من اليهود. فقال تعالى بأنكم إذا عدتم إلى شروركم مرة أخرى سوف ننزع منكم هذه الحكومة ثم يأتي المسلمون ليرثوا هذا العقار وسيكونون ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[ (الأنبياء 106)، وستكون جهنم لكم أي ستحترقون كمدا دائما. فقد وُضعت بهذا العقار الشروط التالية:
(1) سيُنزع هذا العقار ويُعطاه قوم آخرون.
(2) سيُعاد إليكم بعد فترة من الزمن.
(3) سيُنزع منكم بعد فترة.
(4) ثم يُعاد إلى قومكم ولكنه لن يقع في أيديكم بل سيقع في أيدي المسيحيين المؤمنين بالسلسلة الموسوية.
(5) ولكن إن عُدتم إلى شروركم سيُنزع منكم أيضا ويُعطى قوما آخرين أي المسلمين.
احترام دور العبادة سمة الوراثة الإسلامية للأرض المقدسة:
لم يقل الله هنا بأنهم يدخلون المسجد ويُسيئون إليه. لقد قال تعالى في المقامَين الأوّلَين أنهم سيسيئون إلى المسجد ولكن العذاب الذي سيحل في المرة الثالثة حين ينفلت هذا العقار من أيديهم لم يقل عندئذ أنهم سيسيئون إلى المسجد لأن المسلمين يُقدِّسون موسى u وجميع الأنبياء التابعين له ويُقدسون أماكنهم أيضا لذا لم يكن ممكنا للمسلمين أن يسيئوا إلى المساجد كما فعل البابليون والرومان.
مؤرخو أوروبا .. ورذيلة الكيل بمكيالين
من مفارقات الدهر ونكران الأقوام الجميلَ أن البابليين دمروا بلد اليهود وأهانوا مسجدهم، يؤلف المؤرخون الأوروبيون كتبا ولا يُسب أحدهم البابليين ولا يتّهمهم أحد. لقد سيطر الروم على هذا البلد وذبحوا الخنازير في هذا المسجد، وقد ألّف المسيحيون تاريخا رومانيا، فمثلا ألّف المؤرخ "غِبن" The Decline and Fall of the Roman Empire أي (انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية) أو اقرأوا كتبا أخرى بقدر ما تشاءون، فيقول فيها مؤلفوها بأنه لا توجد مملكة أحسن من مملكة الروم مع أنهم دنّسوا مسجدهم، ولكن القوم الذين لم يُدنّسوا مسجدهم أي المسلمون فإنهم يكيلون لهم السباب والشتائم.
مثال رائع للمساواة أقامه سيدنا عمر t:
لقد فُتحت فلسطين في عهد عمر t وعندما زار أورشليم خرج قساوسة أورشليم وسلّموا له مفاتيح المدينة وقالوا بأنك مَلِكنا فادخُل المسجد وصلّ ركعتين نافلة لتطمئن أنك صليت في مكان نقدسه وتقدسونه أيضا. قال عمر t: لا أريد أن أصلي في مسجدكم لأني خليفة المسلمين، فأخشى أن ينزع منكم المسلمون هذا المسجد غدا متذرعين أنه مقام مُقدّس لهم لذا سأصلي خارجه لئلا يُنتَزع منكم مسجدكم.
فكان هناك مَن ذبحوا فيه الخنازير، ولا يملّ الأوروبيون من كيل المدائح لهم، ثم كان هناك مَن رفض أداء ركعتي نفل فيه لئلا ينتزع المسلمون هذا المسجد في المستقبل، وهو الذي يُجعل عرضة للسب والشتم ليل نهارَ. فما أشد هؤلاء القوم نكرانا للجميل.
نبوءة اجتماع اليهود في فلسطين في الزمن الأخير
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: ]فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[ (الإسراء 105). أي سيأتي زمان حين سيُجمع اليهود من العالم كله ويُسكَنون في فلسطين، وقد جاء هذا الزمن حين جاء اليهود إلى هناك
وذلك لكي يتحقق نبأ الدمار الثاني فستُحشَرون من شتى البلاد إلى الأرض المقدسة.
وللأمة المحمدية نبوءة أيضا تحمل عذابا مرتين
لقد ورد في مستهلّ سورة الإسراء نبأُ عن دمارَين يحلان ببني إسرائيل، كذلك هناك نبأ مماثل يتعلق بالأمة المسلمة التي جُعلت مثيلة للأمة الإسرائيلية، كما جُعل الرسول صلى الله عليه وسلم مثيلاً لموسى (المزمل: 16). والدليل على ذلك هو أن تلك السورة تحدثت في بدايتها عن وعدينِ لبني إسرائيل، وكلاهما عن العذاب، وقد تحقّق أحدهما على يد الملك البابلي نبوخذنصر، وثانيهما على يد الملك الرومي تيطس Titus .
وليس في هذين الوعدين أيُّ ذكر عن جمع الإسرائيليين مرة أخرى، وإنما ينبِّئان عن تشريدهم. ولكن هذه الآية تنبئ أنه لدى تحقق الوعد الآخر سيؤتى بهم إلى الأرض المقدسة مرة أخرى؛ مما يعني أن الوعد الآخر هذا هو غير الوعد المذكور من قبل- والمسمى أيضا بـ ]وَعْد الآخرة[ - وأن معه وعدًا آخر هو الوعد الأول. ولو أمعنّا النظر في القرآن الكريم لم نجد فيه هذين الوعدين إلا على النحو التالي: إن سيدنا محمدًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مثيلٌ لموسى عليه السلام، وأن سورة الفاتحة تتضمن نبأً أن فريقًا من الأمة المسلمة سوف يتّبعون سُنن أهل الكتاب؛ وبالربط بين هذين الأمرين نستنتج أن هناك وعدين لعذاب المسلمين أيضًا مرتين كما كان ثمة وعدان لعذاب بني إسرائيل مرتين، وأن الوعد المشار إليه في قوله تعالى ]وَعْد الآخرة[ يعني العذاب الثاني للمسلمين، حيث أخبر الله تعالى اليهودَ أنه لما يحين موعد العذاب الثاني للمسلمين وتخرج الأرض المقدسة من أيديهم لفترة من الزمن سوف يأتي الله بكم إلى هذه البلاد مرة أخرى.
وبالفعل هذا ما حدث. فكما أن الأرض المقدسة خرجت من أيدي اليهود في زمن نبوخذنصر لأول مرة، كذلك خرجتْ أيضًا من أيدي المسلمين إبّانَ الحروب الصليبية (راجِعْ تاريخ القدس لعارف باشا، باب: القدس وحملات الصليبيين). وكما تم نفي اليهود من الأرض المقدسة بعد ثلاثة عشر قرنًا من زمن موسى عليه السلام .. أي بعد حادث صلب المسيح عليه السلام الذي مات عندها في الظاهر بالنسبة لأهل هذه البلاد، كذلك تمامًا بعد انقضاء نفس الفترة الزمنية على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قُضي في عصرنا هذا على حكم المسلمين في الأرض المقدسة مرة أخرى. وبحسب نبأِ القرآن الكريم، فإن دمار المسلمين الثاني كان سببًا في عودة اليهود إلى الأرض المقدسة تارةً أخرى.
ورد في فتح البيان في تفسير هذه الآية: "وقيل: أراد بـ ]وَعْد الآخرة[ نزولَ عيسى من السماء." (فتح البيان، والقرطبي).
لماذا يرث المسلمون فلسطين بدلا من اليهود؟
يمكن أن يُطرح سؤال أنه بعد وقوع فلسطين في أيدي المسلمين وأنها لم تعد في أيدي اليهود ولم تعد في أيدي السلسلة الموسوية، فما هذه المعضلة؟ ولكن إذا تأملنا في الموضوع لا يقع هذا الاعتراض أصلا، لأنه يحدث الخصام أحيانا على الإرث ويأتي الوارثون الحقيقيون ويقولون بأننا نحن من نرثهم، وهذا ما حدث هنا أيضا. الحق أن الله تعالى هو واهب العقار فلما عُرضت القضية أمام الله تعالى هل المسلمون هم ورثة موسى وداود عليهم السلام أم اليهود والنصارى هم ورثتهما؟ فأصدرت المحكمة السماوية قرارا بأن المسلمين هم ورثة موسى وداود عليهما السلام الآن، فنالوا الوِرثة نتيجة هذا القرار. العقار موجود ولكنه سُلّم للذين جُعلوا ورثته.
نبوءة عودة اليهود إلى فلسطين لا تعني نسخ الإسلام:
لقد أنبأ الله تعالى قائلا: ]فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[ (الإسراء 105). أي سيأتي زمان حين سيُجمع اليهود من العالم كله ويُسكَنون في فلسطين، وقد جاء هذا الزمن حين جاء اليهود إلى هناك...... يقول البعض بأن الإسلام نُسخ نتيجة مجيء اليهود، وكأن هذه علامة نسخ الإسلام عندهم لأنه كان من المقدر أن يسيطر عليها ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[، وأنه لما أُخرج منها المسلمون تبين أنهم لم يعودوا ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[. ولكن الغريب في الأمر أن هذه النبوءة موجودة في التوراة وفي القرآن أيضا، وبناء على هذه النبوءة احتفظ البابليون بهذا العقار إلى مئة عام ولم تُلغ الديانة اليهودية بحسب هذا الرأي. لقد ظلت فلسطين خاضعة تحت سيطرة مشركي الروم منذ زمن طيطس إلى مئتَي عام بل ثلاث مئة عام، ولم تكن عندئذ تحت سيطرة النصارى ولم تكن تحت سيطرة اليهود أيضا. كانت قرابين الخنازير تقدّم في المسجد ومع ذلك لم تبطل النبوءة، فهل نُسخ الإسلام في غضون خمسة أعوام بعد وصول اليهود؟ كم يحتوي هذا الكلام على مغالطة شديدة وعداوة مستترة للإسلام!
إن سيطرة اليهود المؤقتة على فلسطين دليل على صدق الإسلام:
باختصار، لو لم يعتبر مجيء البابليين ومجيء الروم المؤقت إليها - والذي كانت مدته مئة عام مرة وثلاث مئة عام تقريبا في المرة الثانية - علامة على نسخ رسالة موسى ورسالة داود فكيف يمكن اعتبار سيطرة اليهود على فلسطين حاليا والذي هو مؤقت أيضا علامة على نسخ الإسلام؟ بل الحق أنها علامة على صدقه لأنه ما دام الإسلام أنبأ بنفسه أن المسلمين سوف يُخرَجون منها مرة وسيعود اليهود فإن عودة اليهود إليها ليست علامة نسخ الإسلام بل علامة على صدقه لأن ما قاله القرآن الكريم قد تحقق تماما.
اليهود سيُخرَجون حتما من فلسطين:
ويبقى السؤال هنا في ظل اجتماع اليهود في الأرض المقدسة وسيطرتهم عليها: كيف يمكننا أن نقول إنها بقيت في أيدي ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[ مصداقا للآية الكريمة؟
فجوابه: أنها خرجت من سيطرة المسلمين مؤقتا مرتين من قبل أيضا، وقد خرجت هذه المرة أيضا مؤقتا. وعندما نقول: "مؤقتا" فهذا يعني أن المسلمين سيدخلونها حتما، وسيرثون هذه الأرض مصداقا للآية الكريمة شريطة أن يكونوا عباد الله الصالحين. وهذا يعني حتما أن اليهود سيُخرَجون منها مرة أخرى ولسوف يحل المسلمون في هذا المقام مرة أخرى.
فالحق أن فلسطين ستخضع لسيطرة ]عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[ بصورة دائمة. فعباد الله الصالحون من أمة محمد رسول الله r سيدخلون هذا البلد حتما، ولن يقدر حبل الناس وأسبابهم الأرضية على منعهم. إنه قدر الله الذي سوف يتحقق لا محالة مهما حاول العالم الحيلولة دونه.
نبوءة هلاك اليهود المفسدين في الحديث النبوي:
لقد وردت في الأحاديث نبوءة أن جيشا إسلاميا سوف يقاتل اليهود المفسدين في الأرض، وسيحاول اليهود التخفي وراء الحجارة خائفين، وعندما سيمر المسلم من قرب الحجارة سيقول الحجر يا أيها المسلم المجاهد في سبيل الله هناك يهودي مختف ورائي فاقتله (صحيح مسلم كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل).
فعندما قال النبي r ذلك، لم يكن لأي يهودي أدنى أثر في فلسطين. فيتبيّن من هذا الحديث أن رسول الله r أنبأ فيه أنه سيأتي زمان حين يسيطر اليهود على هذا البلد. ثم يجعل الله المسلمين غالبين عليه ويدخل جيش الإسلام هذا البلد ويقتلون اليهود وراء كل صخرة.
اعتراض أخير .. والرد عليه
قد يعترض هنا أحد قائلاً إن الله تعالى يقول هنا ]فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا[ وأنتم تقولون إن المراد منه "فإذا جاء وعد الزمن الأخير جئنا بكم لفيفًا"، فما دام الله تعالى قد قال من قبل أيضًا في سورة بني إسرائيل ]فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم[ مشيرًا إلى هجوم البابليين؛ فلم لا نقول أن قوله تعالى ]فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا[.. إنما يشير إلى حملة الرومان تلك؟
والجواب أن هذا غير ممكن، ذلك لأن قوله تعالى ]فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم[ جاء في سياق العذاب حيث بين الله تعالى أنه عندما يحين ذلك الوعد سيُهلَكون ويُدمَّرون، أما قوله تعالى ]فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا[ فجاء في سياق الإنعام حيث بين الله تعالى أنه حينما يأتي وقت هذا الوعد سيأتي بهم الله ويسكنهم في هذه البلاد ثانية. إذًا فكيف يمكن أن يُعتبر نبوءة العذاب إنعامًا؟ فثبت من ذلك جليًّا أن ]وعدُ الآخرة[ المذكور هنالك هو غير ]وعدُ الآخرة[ المذكور هنا. إن ]وعدُ الآخرة[ هنالك يعني آخر حلقة من النبوءة المتعلقة بالسلسلة الموسوية، أما ]وعدُ الآخرة[ هنا فيعني النبوءة المتعلقة بعصر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالوعدان مختلفان رغم تشابه الكلمات. أحدهما وعد العذاب، والآخر وعد الإنعام، وشتّانَ ما بينهما. (مقتبس من التفسير الكبير، سورة الإسراء وسورة الأنبياء)
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.