{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (79) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء 79-80)
أي أنّ كُلّ ما يصيب المرء فهو تحت سيطرة الله وقدرته، فالله له القدرة المطلقة وهو بكل شيء محيط. أما البشر والحجر فلا يملكون شيئا.
ولكن في الوقت نفسه فإنّ الإنسان مسؤول عما يصيبه من شرّ، فالله تعالى لا يريد له هذا الشرّ، ولكن هذا حدث بما كسبت يدا الإنسان. أما الله تعالى فهو يريد الخير وييسّره لمن يسعى إليه.
جاء في التفسير الكبير عند قوله تعالى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (16) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } (الفجر 16-17)
إن الله تعالى لو ابتلى العبدَ بإنـزال نِعَمه عليه كنـزول المطر، لقال لقد أعزّني ربي وأكرمني، وإذا ضيّق عليه حياته وضيق عليه سبل معيشته لحكمةٍ قال قد أذلني ربي وأهانني.. أي أنه ينسب الخير والشر كليهما إلى الله تعالى، ويقول: الله هو الذي أحسن إليّ وهو الذي أساء إليّ. فاعتبر الله تعالى تصرُّفهم هذا خطأ كبيرا، وقال لا تقولوا إن العز يأتي من الله والذلّ كذلك من الله، أو أنه تعالى يأتي بالنتائج الحسنة للأعمال، وهو نفسه يأتي بالنتائج السيئة أيضًا.
وهنا نجد إشكالاً، لأن المنافقين حين قالوا عكس ما زجرهم الله تعالى بسببه هنا فقد نهرهم مرة أخرى حيث قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)(النساء:79).
فكيف زجرهم الله تعالى على قولهم إن العزّ والذل كليهما من الله تعالى، مع أنه تعالى أكد ذلك أيضًا في قوله: (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ).. فلماذا يعلّم الله تعالى شيئًا هنا، ثم يزجر المنافقين على قولهم الشيء نفسه في موضع آخر ويقول لهم: لقد قلتم شيئا خطيرا. فهنا قال: لا تنسبوا الخير والشر إلى الله تعالى، وفي مكان آخر نسب الخير والشر كليهما إلى نفسه! فهناك تناقض ظاهري بين الآيتين.
وليس هذا فقط، بل قال الله تعالى في موضع آخر (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(النساء:80).. مع أنه يظهر أن هذا هو نفس ما قاله المنافقون في سورة النساء، بأن الخير من الله والشرّ من محمد، ومع ذلك زجرهم.
ثم يقول الله تعالى في مكان آخر (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(فُصّلت:47).. أي أن الخير يصدر من الإنسان، والشرّ أيضا يصدر منه، فيعاقَب عليه، وربك ليس ظالما لعباده، وإنما العباد هم الذين يفعلون ما يفعلون فيُجزَون عليه. فنرى هنا أن الله تعالى نسب الخير والشر كليهما إلى العبد.
كذلك ورد في القرآن عن قارون الذي كان معاصرا لموسى عليه السلام أنه قال (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص:79).. أي فعلتُ ما فعلتُ بناء على العلم فنلتُ جزاءه.
إذًا كل هذه الآيات تبدو متناقضة في الظاهر، فعندما قال العبد شيئا قال الله: لا. وعندما قال العبد ما علّمه الله، قال الله أيضًا: لا. فهذه أربع أقوال متناقضة في ظاهرها. والسؤال: ما هو الحق إذن؟
هناك أربع احتمالات لا خامس لها:
1-إما أن الخير والشر كليهما من الله تعالى
2- أو أن الخير والشر كليهما من الإنسان
3- أو أن الخير من الله والشر من الإنسان
4-أو أن الشر من الله والخير من الإنسان
والغريب أن الله تعالى يرفض كل هذه الاحتمالات ظاهرا.
والسبيل إلى حل هذا التناقض الظاهري هو أن نعلم أن كل هذه الأقوال جاءت في سياق معيّن، والتناقض الذي نراه يعود إلى عدم فهم السياق والمنظور فقط. فحيثما ذكر الله تعالى أمرًا ثم أبطلَه فكان من منظور معين، وحيثما صدّق الله الأمر نفسه، فكان من منظور آخر. وأي شك في أن اختلاف زوايا النظر يؤدي إلى تغير كبير؟ فمثلا إذا قال أحدنا لن أفعل إلا ما يأمر به النبي أو خليفة الوقت أو أمير جماعتنا أو رئيس جماعتنا، فهذا قول معقول جدا، وكل من يسمعه يعتبره صحيحا. ولكن إذا قُدّم له الطعام وهو جالس في بيته فقال: لن أتناوله ما لم يأت النبي أو الخليفة أو الأمير أو الرئيس، ويسمح لي بأكله، فسوف نعتبر تصرفه هذا خطأً رغم أن كلامه جيد. فترى أن الشيء الواحد كان صحيحًا في سياق، وصار خطأ في سياق آخر. أو لو أن شخصًا من جماعتنا دعا الإخوة للتبرع لضرورة طارئة للجماعة لقيل له: ما لم يسمح لنا أميرنا أو المركز بشكل رسمي بدفع التبرعات لهذه الحاجة فلن نتبرع بشيء، فقولهم صحيح 100%، لأننا لو سمحنا لكل واحد بجمع مثل هذه التبرعات فلن يستطيع الإخوة دفع التبرعات الرسمية المطالَب بها من قِبَل المركز، أما لو ذهب سكرتير المال أو غيره من مسؤولي الجماعة لجمع التبرعات، فقال له أحد: ما لم تأتني برسالة من الخليفة باسمي أو ما لم يكتب لي بيت المال في المركز بدفع التبرعات فلن أعطيك شيئا، فكل إنسان سيعتبر قوله هذا خطأً، مع أن قوله مماثل للقول السابق في الحالة السابقة. ذلك أن القول الأول قيل في سياق وهذا في سياق آخر، وبسبب تغير السياق نعتبر هذا القول في الحالة الأولى صحيحا ونعتبره خطأ في الحالة الثانية. إذًا، فاختلاف المنظور والسياق يؤدي إلى فرق كبير.
وأضرب مثالا آخر: ضربُ الابن والدَه جريمة شنيعة، ولكن لو كان الوالد جالسا في مكان، وابنه جالس وراءه، ورأى أن حيّة قد صعدت على ظهر أبيه واقتربت من عنقه وهي على وشك أن تلدغه، ففكّر الابن أنه لو حاول إزالتها بيده عن ظهر أبيه فقد تتنبه وتلدغ أباه، فليس أمامه إلا أن يدفعها بصدمة مفاجئة، فينظر يمنة ويسرة، فلا يجد إلا حذاء، فيضرب الحية بالحذاء، ولن يفكر في أن ضرب الوالد غير جائز. ولن يلومه أحد قائلا: أنت ابنٌ خبيث، فكيف تضرب أباك بالحذاء؟ بل سيثني عليه وعلى ذكائه الجميع؛ إذ أنقذ أباه من الموت المحقّق. إذن، فعملٌ واحد يكون مذمومًا في سياق، ومحمودا في سياق آخر.
أو هناك حريق مثلاً، والناس يستنجدون لإطفائه، وأنت بدلاً من أن تذهب لنجدتهم تبدأ في الصلاة أو تأخذ المسبحة وتذكر الله تعالى، فلا يقال أبدًا إنك رجل صالح محب للصلاة ولذكر الله، بل سيذمّك الجميع ويلومونك، مع أن الصلاة عمل حسن جدا.
باختصار، إن اختلاف زاوية النظر واختلاف السياق والمحل يغيّر قيمة أقوال الإنسان وأفعاله.
وفيما يتعلق بالاحتمال الرابع "أن الشر من الله والخير من الإنسان"، فإن القرآن يرفضه رفضا باتًّا. إنه قول مذموم ومكروه من كل النواحي، ولا يمكن أن يكون له أي تفسير مقبول أبدًا.
أما الاحتمال الثالث "أن الخير من الله والشر من الإنسان"، فلا يرفضه القرآن الكريم في الحقيقة بل يؤيده كما قال الله تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(النساء:80).. ولم يرفضه الله تعالى في أي مكان آخر. وإذا وجدنا آية ترفض هذا المفهوم ظاهرا، فهي لا ترفضه في الحقيقة، وإنما تؤيده، كقول الله المذكور من قبل (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)(النساء:79).. إذ لا تعني هذه الآية ما يعنيه قول الله تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:80).. وإنما لها مفهوم آخر تماما، إذ تفنّد خبث المنافقين الذين إذا ظهرت نتيجة حسنة لجهود النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذه مجرد صدفة، وليس فيها ما يدل على نصر الله أو حِنكة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عبّروا عن ذلك بقولهم (هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ). وهذا في الواقع تعبير اخترعه ضعفاء الإيمان لعزْو الأمور إلى الصدف؛ إذ لا يعنون به أنهم موقنون بذات الله تعالى وأن هذا الأمر كان نتيجة للتأييد الرباني، بل يتكلمون بهذا الكلام من باب العادة والتقليد الفارغ من أي دلالة على إيمانهم. وفي بلادنا أيضًا تعبيرات مماثلة لبيان أن الأمر كان صدفة، فمثلا لو نالوا خيرا قالوا: هذا من فضل الله، مع أن قلوبهم تكون خالية تماما من خشية الله أو الإيمان أنه تعالى هو الذي قد كتب لهم هذا النجاح فضلاً منه. إذن، فمثل هذه الكلمات لا تدل على إيمان أصحابها، بل هي تعابير تجري على ألسنتهم في مناسبات شتى. الفرق أن المؤمن حين يتفوه بها فإنه يعني أن الله تعالى قد تفضّل عليه فعلاً، أما الكافر أو المنافق فيتفوه بها وهو يقصد أن الأمر كان مجرد صدفة فحسب. وهذا ما يبينه الله تعالى هنا.. أي أن المنافقين إذا أصابهم خير قالوا على سبيل التقليد لا على سبيل الإيمان: هذه من عند الله.. أي ما هذا إلا صدفة، والدليل على عدم إيمانهم أنهم ينسبون الشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لو نسبوا الشرّ إلى أنفسهم لكان الأمر غير ذلك، ولكنهم ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل بوضوح أن لا إيمان عندهم.
ولو قيل إنهم ينسبون كل فعل إلى الله نظرًا إلى نتائج الأعمال، فالجواب أنه ما دام الله تعالى هو الذي يأتي بالنتائج كلها؛ فلماذا يقولون إن النتائج الحسنة من الله والسيئة من محمد؟ فلو كان كلامهم هذا باعتبار النتائج، فأيضا قد أخطأوا فيما قالوا، لأن القرآن الكريم يعلن أن الكل من عند الله، النتائج الحسنة من الله والنتائج السيئة أيضًا من الله، فلو كانوا صادقين لنسبوا النتائج الحسنة والسيئة كلها إلى الله تعالى، ولكنهم ينسبون الحسنة منها إلى الله والسيئة منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولو أنهم أرادوا أن ينسبوا النتائج كلها إلى أعمال العباد.. أي أن العبد إذا قام بعمل حسن جاءت النتيجة حسنة، وإذا قام بعمل سيئ جاءت النتيجة سيئة.. فكان عليهم أن ينسبوا النتائج كلها الحسنة منها والسيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا كان كثير من المسلمين قد استشهدوا في غزوة أُحد نتيجة خطأ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد انتصر أيضا مع حفنة من أصحابه على جيش كبير للكافرين. فإذا كان قولهم هذا نظرًا إلى فعل العباد فكان عليهم أن ينسبوا العمل الحسن والعمل السيئ كليهما إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا قالوا هذا نظرًا إلى النتائج فكان عليهم أن يقولوا إن الحسنة والسيئة كلتيهما من الله تعالى. ولكنهم قالوا الحسنة من الله والسيئة من محمد، مما لا يستقيم من أي منظور.
الواقع أن من المحال أن ينسب المنافقون الخير والشر كليهما إلى الله تعالى أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن هدفهم النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو قالوا إن النتائج الطيبة والسيئة كلتيهما تظهران بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، لما استطاعوا إبعاد الناس عنه صلى الله عليه وسلم، لأن النتائج الطيبة كانت أكثر بكثير من النتائج السيئة؛ إذ بلغت نسبتها 98%. فعزْوُ النتائج كلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليحقِّق هدفَهم، بل لرفع مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في أعين القوم وجعلهم يثنون عليه قائلين إنه زعيم موهوب؛ إذ انتصر على الأعداء وأسرهم وجلب الغنائم في معظم الحروب. لقد مُنِيَ المسلمون بخسائر أكثر من الكفار في حربيْن فقط، أما في حوالي أربعين أو خمسين غزوة فكانت نسبة قتلى المسلمين إلى قتلى العدو هي واحد من عشرة.
أما لو نسب المنافقون النتائج كلها إلى الله تعالى قائلين إن الخير منه والشر منه، لفشلت أيضًا خطّة إغواء الناس وتضليلهم. كان غرضهم إبعاد الناس عن الإيمان، فما كانوا ينسبون الخير والشر لا من الناحية المادية ولا الروحانية بطريق سليم، بل إذا أصابهم الخير اعتبروه صدفة، وإذا أصابهم الشر نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين: لقد سبق أن تضررنا في موطن كذا وكذا، ومع ذلك لم يغير محمد موقفه، فدفع القوم اليوم إلى الضرر مرة أخرى.
فاعتراضهم ليس مبنيا على أي منطق، بل أساسه الشر والفتنة والفساد، لذلك رفض الله قولهم هذا، وإلا فالواقع أن النعمة من الله تعالى، والشرّ نتيجة لخطأ العبد، ولكن العبد المقصود هنا ليس محمدا صلى الله عليه وسلم، بل عامة المسلمين. فحيثما أصيب المسلمون بنكسة ما كان مردّه خطأ من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل سببه خطأُ اجتهاد المسلمين حينًا كما في غزوة أحد، أو جبنُ ضعفاء المسلمين والكافرين الذين انضموا إليهم حينًا آخر كما حصل في غزوة حنين. أما المنافقون فليس قولهم سليمًا لا من الناحية الروحانية ولا المادية. وإنما قالوا ما قالوا بنيّة الفساد والنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك رفض الله تعالى قولَهم.
ولو قيل إنهم نسبوا الخير إلى الله والشر إلى العبد تعظيمًا لله تعالى، فالجواب لو كان في قلوبهم تعظيم لله تعالى لنسبوا الشر إلى أنفسهم أو إلى الصدفة قائلين: لقد تضررنا لأننا أخطأنا، ولم ينسبوا الشر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. إنما التعظيم أن ينسب الإنسان الخطأَ إلى نفسه، والخيرَ إلى سيده، ولكنهم ينسبون الخير إلى الله تعالى والشر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يعني أنهم لم يقولوا هذا تعظيما لله تعالى، بل بقصد الفتنة والفساد.
أما نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد فأساسها أن الله تعالى قد خلق كل شيء لخير الإنسان، ولكنه يصبح شرًّا له جرّاءَ فعلِه أو فعلِ عدوه. فمثلا: قد خلق الله الزرنيخ ليتناوله الإنسان ليشفى من الحمّى، أو من الإسهال الدموي لأن تناوُل جرعة من الزرنيخ بحسب العلاج بالمِثل (الهوميوباثي) يشفيه منه ويمنع النـزيف، أو أن المصاب بفقر الدم والضعف أو بضعف الأعصاب خاصة لو تناول مقدارا معينا من الزرنيخ شفي من مرضه. فهناك عشرات الفوائد للزرنيخ، ولكن بعض الناس يتناول الزرنيخ عمدا لينتحر، أو أحيانا يتناول أشياء مكوَّنة من الزرنيخ بدون حاجة وبدون مشورة طبيب، أو يُطعِمه العدوُّ إياه خداعًا فيهلك. فمع أن الله تعالى قد خلق الزرنيخ لخير الإنسان، إلا أن هذا الخير يصبح شرًّا له نتيجة سوء استعماله أو لخطأ طبيب أو كيد عدو.
أو خذوا مثلاً الحديد، فقد خلقه الله تعالى لفائدة الإنسان ليصنع منه قطّاعات وسكاكين ومعاول ومناشير وغيرها من الأدوات التي تساعده في ذبح الحيوان وحراثة الأرض وحفرها وكسرِ الصخور وقطع الخشب وما إلى ذلك، ولكنه لو أخذ قضيبا من حديد وضرب به رأسه فمات، فهذا ذنبه هو لا فعلُ الله الذي خلق الحديد لنفع الإنسان وليس للإضرار به أو قتله.
فحيث إن الله تعالى قد خلق كل شيء لمنفعة الإنسان، وإذا تضرر به فإنما يتضرر بنفسه، لذا يُنسب كل خير إلى الله وكل شر إلى الإنسان.
الواقع أنه فيما يتعلق بالنتائج فهي من الله تعالى، لأنه هو الذي يرتب نتائج الأعمال سيئة أو حسنة، ولكنه تعالى لا يُتّهم بظهور نتيجة سيئة لعمل لأنه تعالى لم يفعله وإنما فعله الإنسان. فمثلا لو قفز شخص من منارة ومات، فهو مَن ألقى بنفسه منها، ولم يسقطه الله، مع أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان من لحم ودم بحيث لو سقط من مكان عالٍ مات، وهو سبحانه وتعالى الذي جعل له رئة تتضرر نتيجة سقوطه. ففيما يتعلق بالنتيجة فهي تُنسب إلى الله تعالى حتمًا، وسيقال إن الإنسان مخلوق من عند الله تعالى بلحم ودم بحيث لو قفز من مكان عالٍ ترضّضَ جسده ومات، ومع ذلك لا يقال إن الله أسقطه من المنارة، أو جعله من لحم ودم ليقفز من المنارة، كلا، بل قد خُلق لحمه ودمه لهدف آخر.
فثبت أنه فيما يتعلق بالنتائج فإنها بخيرها وشرها ستُنسب إلى الله تعالى، ولكن فيما يتعلق بالشر الناتج فيُتهم الإنسان بتسبُّبه، وإليه يُنسَب الفعل خيرا أو شرا. فنقول: الخير يأتي من الله والشر كذلك، ولكن إذا قيل من يرتكب الفعل الحسن أو السيئ، فنقول: العبد، لأنه هو الذي يسرق وهو الذي يصلي. فيما يتعلق بكفاءات الإنسان فلو سئلنا مَن خلقها فيه، قلنا: الله تعالى، وإذا سئلنا من أظهرها بالفعل؟ قلنا: العبد. ذلك أن قوى الإنسان وكفاءاته كلها خير، فنقول إنها من عند الله تعالى، وفيما يتعلق باستعمالها وظهورها فخيرها يُنسب إلى الله تعالى لكونه خالقًا لها، وشرُّها يُنسب إلى العبد؛ لأن العباد هم الذين يرتكبون أفعالا شريرة.
إذن، ينسب الخير والشر كلاهما إلى الله تعالى من حيث النتائج، وينسب الخير والشر كلاهما إلى العبد من حيث العمل. ومن حيث تزوُّد الإنسان بشتى القوى، فيُنسب خيرُها إلى الله تعالى، ولكن لا يُنسب شرها إلى الله تعالى، لأنه لم يخلق أي شيء لاستعمال سيئ. ومن حيث ظهور هذه القوى في الإنسان بالفعل، فخيرها ينسب إلى الله تعالى وشرها إلى العبد. لأن الله تعالى لم يخلق هذه القوى لأي شر.
باختصار، فكلا الأمرين يفعلهما الله، ويفعلهما الإنسان أيضًا، ومع ذلك يُنسب الشر إلى الإنسان والخير إلى الله تعالى. وقد رُفض قول الإنسان من عند الله تعالى في الآية قيد التفسير لأنه نسب الشر إلى الله تعالى، حيث أخبر الله تعالى (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ).. أي أن الله تعالى حين يمطر على عبده مطر نعمه لكشف حقيقته عليه، ينسى الهدف الحقيقي وراء ذلك ويقول: لقد أكرمني الله.. أي أن الله قد عاملني هكذا لأني أهلٌ لذلك، ولا يفكّر أن الله قد أعطاه هذه النعم لكشف خيره أو شره على الدنيا، أو أعطاه هذه الثروة ليُري الناس قوة إيمانه أو ضعفه، وأن ثروته أصابته بالكبرياء أم لا، وأنه أدى حقوق العباد بكل أمانة أم لا. فبدلاً من أن يدرك العبد هذا الهدف وراء إنعام الله عليه يستنتج منه نتيجة خاطئة، فيظن أن الله تعالى قد أحبه إذ ينعم عليه هذا الإنعام الكثير.
ثم يقول الله تعالى (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ).. أي إذا اختبره الله تعالى بضيق الرزق فلا يدرك أن الله تعالى يريد بهذا الابتلاء أن يكشف معدنه له أو للدنيا: أيصبر على الشدائد، ويكون جنديًا شجاعا في سبيل تلبية حاجات الأمة أم لا. إنه لا يفهم أيًا من هذه الحِكم، فيصرخ عند الضيق أن الله قد أهانني. ويعني أنه يتخذ في كلتا الحالتين موقفا خاطئا، ويكون كلامه في المرتين خاطئا، وإن كان كلامه صحيحًا من حيث المبدأ أن الله تعالى يختبر العبد بالإنعام والإكراه حينًا وبإلقائه في المحن وضيق الرزق حينًا آخر.
فالمؤمن يظل في الحالتين ثابتًا قائما، أما الكافر فيقول عند الإنعام والإكرام ربي أكرمني، مع أن الله تعالى يريد اختباره بهذا الإكرام، وعندما يضيق عليه رزقه يقول ربي أهانني، مع أن الله تعالى يريد كشف باطنه بهذا الاختبار. وكأن كلا المقامين مقام ابتلاء لا مقام جزاء. عندما يُمطر اللهُ على العبد نِعمه فهو في ابتلاء، وعندما يضيق عليه رزقه فهو في ابتلاء أيضا، بمعنى أن الله تعالى لا يُنـزل عليه نعمه جزاءً على عمل عظيم، ولا يضيق عليه رزقه عقوبةً على جريمة، بل هما حالتان من الاختبار كي يكشف الله حقيقته عليه وعلى الآخرين.
يجب ألا يغيبنَّ عن البال أن نِعَم الله وبلاياه نوعان؛ ما يكون ابتلاء، وما يكون جزاء. بمعنى أنه ينـزل عليك النعم ابتلاء حينًا، وجزاءً حينًا آخر، وكذلك ينـزل عليك المصائب ابتلاء حينًا، وعقوبة حينًا آخر. والحديث هنا عن الابتلاء لا عن الجزاء، ولذلك يدينُ الله الإنسانَ ويقول: لقد أنعمنا عليه اختبارًا، فقال: لقد أكرمني الله، وكأنما يقول: كان حقًّا على الله أن ينعم عليه، وكان واجبا على الله أن يكرمه. إنه لم يفكر أنه لم يعمل أي خير، وإنما نزلت عليه هذه النعم لاختباره. وعلى النقيض إذا أصابته مصائب على سبيل الاختبار قال: ربي أهانني، وقد أذلني غاضا النظر عن مكانتي. لو أن الإنسان قال في هذه الحالة قد نزل علي هذا العقاب بسبب جرائمي، أو قد عذبني ربي نتيجة ذنوبي، لما عُدَّ مجرما ومدانا - وإن كان قوله هذا أيضًا خطأً، إذ هو في مقام الابتلاء لا في مقام الجزاء- ولكنه يقول ربي أهانن.. أي كنت أستحقّ الإعزاز ولكن ربي أهانني وأخزاني.
الواقع أن للابتلاء صوره وللجزاء صوره. فمثلا يُعزّ الله تعالى كل نبي ويكتب له النجاح في أهدافه، فهناك عديد من الأنبياء الذين أُعطوا المُلك المادي مع الملك الروحاني، مثل موسى وداود وسليمان عليهم السلام (النمل: 17-20، ص: 18-21 و 31-36، التثنية: 2/31-33، الملوك الأول 2/11 و 2/12)، ولكنهم لم يُعطَوا المُلك المادي ابتلاءً، بل إنعامًا وجزاءً، لتقويتهم؛ فمثلا لو لم يؤت اللهُ الرسول صلى الله عليه وسلم مُلكًا ماديًا، فكيف كان سينفّذ شريعة القرآن عمليا؟ فثبت أن المُلك الذي وهب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء كان أمرًا ضمنيا وبمنـزلة وسيلة لتكميل مهمته ولم يكن ابتلاء. إنما يأتي الابتلاء دائما لكشف أخلاق المرء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت أخلاقه قد تجلّتْ من قبل بشكل كامل، وقد فاز برضى الله تعالى في السراء، وسار على سبل رضاه في الضراء أيضا. لقد جاءته الثروة فأنفقها لمنفعة الناس بلا هوادة، ولم ينتفع منها. وقد صُبّت عليه أنواع المصائب والأذى، فلزم الصبر دائما. ذات مرة مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالمقابر، فوجد امرأة تبكي على قبر، فقال لها: اصبري يا امرأة، فقالت: لو مات ولدك لرأيت كيف تصبر! إنك تنصحني إذ لم يمت لك ولد. فقال صلى الله عليه وسلم: لقد مات لي سبعة، وصبرت في كل مرة. ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: ويلك ألم تعلمي من هو؟ قالت: كلا. قالوا: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأسرعت تجري وراءه صلى الله عليه وسلم حتى أتت بيته وقالت: يا رسول الله، إني أصبر. فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأُولى أما بعد ذلك فلا بد للمرء إلا أن يصبر شاء أم أبى. (البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور).
إذن، قد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف يجزع فيها الإنسان ويفزع، ولكنه صبر فيها راضيا بمشيئة الله. كان النبي صلى الله عليه وسلم عند ابنه إبراهيم عليه السلام حينما جاد بأنفاسه الأخيرة، فسالت الدموع من عينيه صلى الله عليه وسلم من شدة الكرب، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي؟ فقال: نعم، العين تدمع ولكن لا اعتراض عندنا على قضاء الله، فالخير فيما فعل (المستدرك للحاكم: كتاب الجنائز). فالابتلاء غير الجزاء، لأن من النعم ما يكون جزاء على وصول المرء المقامات الروحانية العليا. لقد قال السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله: إني لا آكل طعامًا حتى يقول الله لي: يا عبد القادر، أنشدك باسمي أن تأكله. ولا ألبس لباسا حتى يقول الله لي: يقول الله لي: يا عبد القادر، أنشدك باسمي أن تلبسه. فهذا المقام ليس مقام ابتلاء، بل هو مقام إنعام يناله المرء بسبب بلوغه المقام العالي. والله تعالى يمرّر هؤلاء الأخيار بالسرّاء والضرّاء ويكشف أخلاقهم وباطنهم للعالم جيدا، فلا يكونوا بعدها بحاجة إلى أي ابتلاء، أما عامة الناس فتصدأ قلوبهم بالذنوب بحيث لا يتأثرون إذا مسّتهم السراء الآتية من عند الله تعالى، ولا يتغيرون إذا مستهم الضراء من عنده تعالى. إنهم يعيشون عميانا، ويفارقون الدنيا عميانا، وعن مثل هؤلاء العميان روحانيًا تحدّثَ الله في هذه الآية، وأخبر أنه أحيانا يصيبهم بالسراء على سبيل الابتلاء، ولكنهم يفرحون قائلين: لقد أكرمنا الله، مع أن أعمالهم ليست مما يستحقون به الإنعام والإكرام من الله تعالى، إذ تؤدي بهم ثروتهم وعزتهم إلى الجحيم في كثير من الأحيان، وأحيانا يُضيِّق الله عليهم رزقهم فيقولون لقد أهاننا الله. وكأنهم في الحالتين يغمضون أعينهم عن حِكم الله، فيموتون روحانيا.
وقد رسم الله تعالى واقعهم هذا في آية أخرى فقال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(يس: 48). فهذه الآية شرح للآية قيد التفسير، حيث بين الله تعالى فيها أن الكفار يرون أن الله أعطاهم هذه النعم لأنهم يستحقونها، ولم يُعطِها غيرَهم لأنهم لا يستحقّونها، وحيث إن الله قد أكد بفعله أنهم لا يستحقونها، فمن واجبنا أن لا نعطيهم منها شيئا. والظاهر أن مَن عنده هذا التفكير لن يشكر الله تعالى على نعمه، وإذا أصابته مصيبة فلا بد أن يشتكي بأنه تعالى لم يكرمه إكراما يليق به، ولم يعامله بحسب مكانته.
ترددات قناة mta3 العربية:
Hotbird 13B: 7° WEST 11200MHz 27500 V 5/6
Eutelsat (Nile Sat): 7° WEST-A 11392MHz 27500 V 7/8
Galaxy 19: 97° WEST 12184MHz 22500 H 2/3
Palapa D: 113° EAST 3880MHz 29900 H 7/8