loader
 

السؤال: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته, أريد ان أعرف ما هو المسجد الأقصى الذى ذكر فى الحديث الشريف لا تشدوا الرحال الا لثلاث, المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدى هذا, مع أن المسجد الأقصى الموجود فى فلسطين لم يكن قد بنى بعد؟

سأنقل ما جاء في التفسير الكبير للخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام عند تفسيره لآية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، حيث قال:
أرى أن هذه الرحلة الكشفية إلى القدس كانت تتضمن نبأً عن الهجرة النبوية إلى المدينة، وأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ الأقصى كانت إشارة إلى بناء المسجد النبوي الذي قدِّر له أن ينال تعظيمًا وتكريماً أكثر من المسجد الأقصى. وأما صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء الآخرين إمامًا لهم فكانت بشارةً بأن دعوته لن تبقى منحصرة في العرب وحدهم، بل ستمتد إلى الشعوب الأخرى، وستدخل أمم الأنبياء الآخرين في الإسلام، وأن هذا الانتشار سيتم بعد الهجرة. كما كان هذا نبأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم سينال الحكم على القدس، حيث ورد في كتب تعبير الرؤى: "وتدلّ رؤيةُ كل مسجد على جهته والتوجه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك. وربما دلت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نُوّاب ملوكهم". (تعطير الأنام كلمة المسجد).
وسأتناول الآن كلًّا من هذه المعاني واحدًا بعد الآخر، لأبين كيف أنها قد تحققت كلها لصالح النبي صلى الله عليه وسلم.
المعنى الأول- لقد قلت آنفًا إن المراد من المسجد الأقصى في هذه الرؤيا هو المسجد النبوي، وأن القدس تعني المدينة المنورة، وأن سفره صلى الله عليه وسلم إلى القدس يعني هجرته إلى المدينة.
لقد بدأ الله تعالى ذكر هذه الرؤيا بقوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعبده) ليشير إلى أن الهجرة ستُجلّي سبوحية الله أي براءتَه من العيوب والنقائص كليةً. فكلمة (سبحان) أيضًا تبين أن هذه الرؤيا انطوت على نبأ، ذلك أن رؤية بيت المقدس في الظاهر لا تؤكد سبوحية الله، ولكن الهجرة إلى المدينة ساعدت على قيام الدولة الإسلامية التي حققت كثيرًا من الأنباء الواردة في القرآن الكريم، مما دل على سبوحية الله تعالى. فبقولـه تعالى (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجد الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) أشار إلى أنه سيذهب بعبده إلى المسجد الأقصى أي إلى مسجد مماثل لـه، لكي تتحقق تلك الأنباء التي لا بد لتحقُّقها من الهجرة، فترى الدنيا كيف أنه عز وجل أنجز ما وعد به في القرآن من الأنباء المتعلقة بالجهاد والقتال وقيام الدولة الإسلامية وغيرها مما كان متوقفًا على الهجرة.
ثم إن قولـه تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أيضًا يدل على أن هذه الرؤيا تشير إلى سفر ستتجلى فيه آيات إلهية خاصة. ولا غرو أن الهجرة هي السفر الذي كشف الستار عن مستقبل مشرق للإسلام كان خافيًا على الدنيا من قبل.
كما أن قولـه تعالى (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أيضًا يدعم موقفي، لأن رؤية القدس في الكشف وحدها ليست دليلا على كون الله سميعًا بصيرًا، ولكن هجرة المدينة قد جلّت هذا المعنى أيما جلاء. لقد دلت الهجرة على أن الله سميع.. حيث تبيَّن بها أن الله تعالى يسمع ويستجيب دعاء عباده، ودلّت على أنه تعالى بصير.. حيث تحققت للمسلمين الانتصارات التي وُعدوا بها بعد الهجرة. كما دلت حمايةُ الله للمؤمنين إثر الهجرة على أن هناك إلـهًا يبصر بالعباد ويحفظهم.
وكانت رؤيته صلى الله عليه وسلم المسجدَ النبوي على شكل المسجد الأقصى والمدينةَ على صورة القدس تتضمن الإشارةَ إلى أن مسجده ومدينته صلى الله عليه وسلم سيبارَك فيهما كما بورك في الأقصى والقدس.
وربما يقال هنا: لماذا لم يُشبَّه المسجد النبوي بالمسجد الحرام بدلاً من الأقصى؟
والجواب أولاً: إن المسجد الحرام ينفرد- دون جميع المساجد حتى المسجد الأقصى والمسجد النبوي- بخصوصيات تتعلق بشعائر الحج. وثانيًا: كان الهدف من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ الأقصى إعلامَه أن تلك المنطقة ستقع في أيدي المسلمين، وهذا الهدف ما كان ليتحقق برؤيته المسجد الحرام. فبما أن كشف اسم المَهجر النبوي صراحةً لم يكن أمرًا حكيمًا بسبب الأوضاع السياسية السائدة حينذاك فرمَز الله عز وجل لنبيه هنا بالمسجد الأقصى إلى المسجد النبوي وبالقدس إلى المدينة المنورة.
وتحقُّقُ هذا النبأ في حق المسجد النبوي ظاهر مما روي عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى." (البخاري: كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)
فالمسجد الأقصى قد شُبّه هنا بالمسجد النبوي، وبتأسيس المسجد النبوي تحقق نبأ أداء النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في المسجد الأقصى.
وكان في رؤيا الإسراء نبأ آخر يتعلق ببركة المدينة المنورة، وهو المشار إليه في قولـه تعالى (الَّذِي بَارَكْنَا حَولَه).. و(حوله) يعني ما حول الأقصى وهو مدينة القدس. وطبقًا لهذا النبأ بارك الله فيما حول المسجد النبوي أيضًا.. أي في المدينة المنورة. وإليكم الأدلة على ذلك:
1- ورد في الحديث: "عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعَلْ بالمدينة ضِعفَي ما جعلتَه بمكة من البركة". (البخاري: كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث)
2- وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم حَبِّبْ إلينا المدينةَ كحبنا مكةَ أو أشدَّ. اللهم بارِكْ لنا في صاعنا ومُدِّنا" (المرجع السابق). وقوله صلى الله عليه وسلم: "بارِكْ في صاعِنا ومُدِّنا" يعني أن يبارك الله في زراعة أهل المدينة وتجارتهم.
3- و"عن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرّمتُ المدينةَ كما حرّم إبراهيمُ مكة، وإني دعوتُ في صاعها ومُدّها بمثلَي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة." (مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة)
علمًا أن الدعاء للمدينة هنا كان من أجل البركة المادية، أما من حيث البركة الروحانية فإن مكة هي الأفضل بين سائر المدن بدون شك.
لقد تبيَّنَ من هذه الأحاديث كلها أن المسجد الأقصى الذي بورك حولـه والذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا كان المقصود منه المسجد النبوي، إذ لم تُؤتَ القدسُ حتى عُشْرَ ما أوتيت المدينةُ المنورة من البركة.
وهناك رواية لعائشة رضي الله عنها توضح لنا كيف بارك الله في المدينة بركة ظاهرة حيث قالت: قبلَ مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان وباء الحمى يتفشى فيها بكثرة، ولذلك كانت تسمى "يثرب" أي البكاء والعويل، فنجّاها الله عز وجل من هذا الوباء ببركة دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فسمّاها المدينة (البخاري: فضائل المدينة).
كما ورد في كشف الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالأنبياء في المسجد الأقصى. وهذا النبأ لم يتحقق إلا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حيث كانت المدينة نقطة انطلاق دعوة الإسلام إلى كل بقاع العالم؛ بل الواقع أن ازدهار الإسلام لم يتوقف إلا بعد أن نُقلت عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة. لقد حقق الإسلام في الثلاثين عامًا - التي كانت فيها مدينة الرسول عاصمة للدولة الإسلامية - من الانتشار والازدهار ما لم يحققه في ثلاثة عشر قرنًا!
وقد يقال هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص المدينة بهذه الخصوصيات والبركات من عند نفسه! والجواب: ليس بوسع الإنسان أن يمنح البركات. متى يقدر الإنسان على أن يدلي بمثل هذه الأنباء ثم يحققها أيضًا؟ الحق أن ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة كان بمثابة تصديق منه لما نبّأه الله به من قبل.
وجدير بالانتباه أن قوله تعالى (أَسْرَى بعَبْدِه) يشير إلى أن عبد الله هذا لم يخرج في هذه الرحلة الليلية بخياره، بل الله نفسه قد سيّره. وهذا بالضبط ما حدث في الهجرة أيضًا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة تحت ستار الليل، ولم يغادرها برغبته، وإنما اضطر للخروج منها حين حاصر الكفار بيته لاغتياله. إذن فلم تكن الهجرة برغبته صلى الله عليه وسلم، بل إن المشيئة الإلهية هي التي دفعته للهجرة.
ثم كما أن جبريل صاحَبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إسرائه إلى القدس، كذلك رافق أبو بكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة، وكان متفانيًا في طاعته كما يطيع جبريل أوامر الله تعالى. وكلمة جبريل تعني "بطلُ اللهِ"، وكذلك كان أبو بكر عبدًا مختارًا لله تعالى، وبطلاً مغوارًا في سبيل دينه.
المعنى الثاني- وقد قلت أيضًا إن رؤية المسجد الأقصى تعني أيضًا مسجد بني إسرائيل (أو المعبد الإسرائيلي) بالقدس، والمراد أن الله تعالى سيجعل نبيه صلى الله عليه وسلم غالبًا على ذلك البلد أيضًا. ولقد تحقق هذا النبأ أيضًا حين وقعت القدس في أيدي المسلمين في عهد ثاني خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر حكمهم عليها ثلاثةَ عشرَ قرنًا. لقد استولى عليها الآن المسيحيون، ولكنه استيلاء مؤقت، وقد تم أيضًا بحسب نبأ من أنباء الله تعالى، وسوف تعود القدس - عاجلاً أو آجلاً - إلى أيدي أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى.
ونظرًا إلى هذا المعنى، كان المراد من قوله تعالى (ليلاً) أن فتح القدس لن يتم بقوة الحروب المادية، وإنما ببركة تلك الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً. وهذا ما حدث بالضبط، إذ متى كان جندُ العرب القليلُ العددِ والعتادِ قادرًا على الصمود أمام جيوش إمبراطور عظيم كقيصر، وإنما هو وحي الله النازل ليلةَ الإسراء الذي جعل جيشَ قيصر العرمرمَ والخبيرَ بفنون الحرب والقتال يفرُّ أمام العرب العديمي العدة والعتاد فرارَ الحمير من الأسد.
وقد يعترض أحد ويقول: لم تُفتَح القدس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما في عهد عمر؟ والجواب: أن أتباع النبي أيضًا يكونون مشمولين في الأنباء التي يدلي بها. وهناك أمثلة كثيرة لذلك في الإسلام وفي كتب الأنبياء الذين خلوا من قبل.
المعنى الثالث- لقد أخبرتُ أن رؤية المسجد في المنام تدل على علماء المنطقة التي فيها المسجد. وطبقًا لهذا النبأ نجد أن المسلمين لم يحققوا الغلبة السياسية على القدس فحسب، بل إن معظم سكان تلك البلاد دخلوا في الإسلام، ولم تزل القدس مركزًا لعلماء المسلمين طيلة ثلاثة عشر قرنًا. والظاهر أنه لم يكن بوسع إنسان أن يُحدث هذا الانقلاب، بل إن الله هو الذي فعل ما فعل.
والغريب أن النار التي رآها موسى عليه السلام أثناء أحد أسفاره قد وصفها القرآن الكريم بكلمات مماثلة حيث قال الله تعالى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: 9). فترى أن كلمات (بورك) و(مَنْ حَوْلَهَا) و(سبحان) تماثل الكلمات الواردة هنا في سورة الإسراء.
علمًا أن البعض يقول أن المقصود من النار هو الله تعالى (القرطبي)، ولكن هذا خطأ، لأن الآية تقول (بُورِكَ مَنْ فِي النار)، والله تعالى يبارِك ولا يبارَك. فالحق أن النار هنا لا تعني اللهَ، وإنما تعني لوعةَ حب الله تعالى؛ والمراد أن الذي يلقي نفسه في نار حب الله يبارَك. وتشبيه الحب بالنار شائع في لغات العالم كلها.
الحق أن المكان الذي يُظهر الله فيه جلاله توضع فيه البركة، وتتجلى فيه سبوحية الله تعالى؛ وإلى هذا السر الروحاني يشير كل من إسراء النبي صلى الله عليه وسلم وحادث رؤية موسى عليه السلام النارَ.
وهناك حادث آخر لموسى عليه السلام مشابهٌ للإسراء النبوي وقد ذُكر في السورة اللاحقة أعني "الكهف"، وسأبين أَوجُهَ التشابه هذه لدى تفسير سورة الكهف.
هذا، وأرى أن كشف الإسراء يشير إلى رحلة نبوية روحانية أخرى أيضًا. فقد أخبر الله عز وجل في هذا الكشف أنه سيأتي على أهل الإسلام عصر الظلام، وسيبعث الله عندها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في شخص أحد من خدامه المطيعين لـه، ليكون منارًا للهدى في ذلك العصر المظلم كالليل، ولينال المسلمون بواسطته نفسَ البركات التي نالها أنبياء بني إسرائيل وأتباعهم. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة الجمعة أيضًا حيث قال (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(الجمعة: 3-4).. أي أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يعلِّم الدين جماعةً أخرى لم تلحق بعد بالمسلمين، بل ستظهر في المستقبل. وذلك ليس بمستبعد على الله تعالى، لأنه العزيز الحكيم.. أي أنه لن يدَع أمةَ المصطفى صلى الله عليه وسلم لتهلك هكذا، بل لا بد أن يبعثه لإصلاحهم بعثةً روحانيّةً.

نقله


 

خطب الجمعة الأخيرة