معلوم أنَّ الإنسان يعيش عمرًا معينًا ثم يموت. لذا فمن غاب عن بيتـه زمنًا طويلاً، يحكم القاضي بموتـه عند سن معينة، على اختلاف في تحديدها، لتقسيم الميراث مثلاً. ولا يقال: إنَّ هذا الشخص لم يثبت موتـه، ما يوجب الحكم بحياتـه مئات السنين، فالأصل أنْ يموت الإنسان بعد مدة محددة معروفة على وجه التقريب، ومعروف متوسطها الحسابي.
من هنا، غير جدير بأنْ يُسأل عن أدلَّة وفاة عيسى ابن مريم؛ فهي مسألة في غنًى عن دليل، بل يجب السؤال عن دليل حياتـه؛ فهناك ملايين من الناس الذين لم يثبت موتـهم بدليل بيِّن، ومع هذا نحكم بموتـهم. فالذي فُقد في الحرب العالمية الأولى من أجدادنا نقول عنـه: إنَّـه قد مات، مع أنَّ أحدًا لم يشهد أنَّـه قد رآه ميتًا. والمعنى أنَّـه إن لم يكن هناك دليل على وفاة المسيح عليه السلام، فيجب أنْ نحكم بموتـه بناء على الأصل؛ وهو موت أي إنسان عند سن معروفة تقريبًا.
ومع هذا، نرى أنَّ النبي الوحيد الذي اهتم القرآن الكريم بتأكيد وفاتـه هو المسيح ابن مريم عليه السلام، كما أكد ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم. وقد بدأ العلماء يرجعون إلى القول الحق في هذه المسألة، وصار كثير منـهم يقول بوفاة المسيح ابن مريم، وتبين لـهم دور النصارى في حشو هذي العقيدة في أذهان المسلمين.
إنَّ القول بصعود عيسى عليه السلام إلى السماء عقيدة نصرانية لا جذور لـها في الفكر الإسلامي؛ فالنصارى يعتقدون أنَّ المسيح قد مات على الصليب ثم صعد إلى السماء من قبره الذي وضع فيه، ليجلس إلى يمين اللـه. أما عندنا، نحن – المسلمين- فلم يُذكر في القرآن ولا في السنة أنَّ عيسى عليه السلام صعد إلى السماء قط، أو أنَّـه حي. فالحياة، والسماء، والجسد بالنسبة إلى المسيح عليه السلام غير موجودة في القرآن أو في السنة، بل هي استنتاجات واجتـهادات فُهمت خطأ من الآيات التي تذكر أن الله تعالى رفعه إليه، في حين أنَّ لفظ (الرفع) يَحتمل رفع المكان أو رفع المكانة. ونتيجة الأحاديث النبوية التي تتحدث عن نـزول المسيح، علمًا أن (نزل) كلمة ذات عدَّة معانٍ، بمعنى أنَّـها ظنية الدلالة، أي أنَّ الذين قالوا بوجوده في السماء ردوا المحكم إلى المتشابـه، بدل أن يردوا المتشابـه إلى المحكم.
وإليك أدلَّة وفاة المسيح عليه السلام بالتفصيل من خلال القرآن الكريم والسنة وأقوال العلماء المسلمين.
أدلَّة القرآن الكريم على موت عيسى عليه السلام
أولاً: قوله تعالى (إِذْ قَالَ اللـه يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(آل عمران: 56)
(مُتَوَفّيكَ): لا تعني هنا إلا مميتك، ولا تعني (رافعك) وافيًا بجسدك؛ وذلك للأدلَّة التالية:
1-إنَّ التَّوَفّي إذا كان من باب التفعل، وكان الفاعل هو اللـه أو أحد الملائكة، وكان المفعول بـه (المُتَوَفَّى) صاحب روح، ولم تكن قرينة صارفة؛ كالنوم أو الليل، فليس معناه إلا الموت. ولا يوجد أي مثال ينافي هذه القاعدة في القرآن، أو في السنة، أو في كلام العرب. ولو راجعت المعاجم العربية المختلفة لتبينت ذلك .
جاء في لسان العرب: تَوَفَّاه اللـه: إذا قبض روحه.
جاء في القاموس المحيط: تَوَفَّاه اللـه: أي قبض روحه.
ومثلـه في أقرب الموارد، وفي المنجد: تَوَفَّاه اللـه: أماتـه، وتُوُفِّيَ فلان: قُبِضَت روحه ومات.
2- وردت في القرآن الكريم كلمة تَوَفَّى (تَفَعَّل) 25مرة. وكانت في 23 مرة منـها بمعنى الموت. إذ لم تكن قرينة صارفة. وكانت في مرتين بمعنى النوم؛ حيث وردت قرينة صارفة هي الليل في الآية 61 من سورة الأنعام، وفي الآية 43 من سورة الزمر. ولم تأت في أي منها بمعنى (قبضه وافيًا) كما جاء في بعض كتب التفسير. وحسب سياق هذه الآية، فإنها يظهر أنها قطعية في دلالتـها على موت عيسى عليه السلام.
ثانيًا: قولـه تعالى (وَإِذْ قَالَ اللـه يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلـهيْنِ مِنْ دُونِ اللـه قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُـه فَقَدْ عَلِمْتَـه تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لـهمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بـه أَنِ اعْبُدُوا اللـه رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(سورة المائدة: 116-117)
يسأل اللـه تعالى عيسى عليه السلام يوم القيامة، عنْ سبب اتخاذ الناس إياه إلـهًا. فيجيب بأنَّـه أمرهم بأنْ يعبدوا اللـه، وبأنَّـه كان عليهم شهيدًا خلال مدة إقامتـه بينـهم، أما وقد مات، فلا علم لـه بما حصل بعده منْ تأليه لـه؛ فكان اللـه تعالى هو الرقيب عليهم، وهو على كل شيء شهيد. ولو فرضنا أنَّ عيسى سيبعث منْ جديد فستكون إجابتـه غير صحيحة؛ إذ إنَّـه سيعلم ما أحدثوا بعده، وسيكون عليهم رقيبًا.
وقد استدل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم بـهذه الآية على الموضوع نفسه، فقال: (يُجاء بـرجال منْ أمتي... ثم يؤخذ بـرجال منْ أصحابي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي؟ فيقال: إنَّـهم لم يزالوا مرتدين على أعقابـهم منذ فارقتـهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)... عن قبيصة قال: هم المرتدون الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلـهم أبو بكر رضي اللـه عنـه)
ثالثًا: لقد ذكر اللـه تعالى نعمه على عيسى عليه السلام ولم يذكر نعمة حياتـه في السماء آلاف السنين، ثم مجيئه ليكون للناس كافة، ثم نسخه تشريعات إسلامية، ثم نجاحه الباهر واتباع الناس جميعًا إياه ، ثم قتلـه ذلك الدجال الرجل صاحب الخوارق كما يتوهم البعض في تفسيراتـهم للأحاديث النبوية البليغة المليئة بالمعاني، التي يفسرونها تفسيرًا خرافيًا. إقرأ قولـه تعالى(إِذْ قَالَ اللـه يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتـهمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنـهمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) (سورة المائدة: 111)
فهذه هي النعم التي أنعم اللـه بها على نبيه عيسى، وهذا هو معرض الحديث عنـها. وعدم ذكر نـزولـه ليحكم العالم وتدين لـه البشرية في معرض الحاجة إلى ذلك، دليل على عدم حصولـه بالنسبة إليه؛ فالسكوتُ في معرض الحاجة إلى بيانٍ بيانٌ . فالآية يُفهم منـها، ضمنًا، عدم مجيء عيسى عليه السلام إلى هذه الدنيا ثانية.
رابعًا: قولـه تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلـه الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللـه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللـه الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران: 145)
(خلت) تعني ماتت، ولا تعني هنا مرّت؛ فالآية تتحدث عن الموت، والمعنى: أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلّم رسول، مات منْ قبلـه الرسل جميعًا، فلماذا تـهربون من المعركة وترتدون على أدباركم بعد سماعكم بموتـه، أو بقتلـه؟ فهو كمن سبقه من الرسل سيموت، وهذا لا يدعو إلى التراجع والـهزيمة.
ولو فرضنا أنَّ معنى (خلت)، هنا، مرّت، لما كانت قيمة لـهذا المعنى.
هذا بَلْـهَ أنَّ كلمة (خلت)، كثيرًا ما جاءت في القرآن الكريم بمعنى ماتت. كما في الآيات التالية.
1-(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلـها أُمَمٌ) (سورة الرعد: 31)
2-(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) (سورة البقرة: 142)
واستعمل التعبير نفسه في الآية التالية: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلـه الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لـهمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(سورة المائدة: 76)
و جاء في لسان العرب: خلا فلان إذا مات.
وفي أقرب الموارد: خلا الرجل إذا مات.
وقال السَّمَوْأل: إذا سيِّد منَّا خلا قام سيِّد قؤول لما قال الكرام فعول
أي إذا مات منا سيد قام مقامه سيد آخر .
خامسًا: قولـه تعالى (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (سورة مريم: 34)
والنص ذاتـه جاء عن يحيى عليه السلام: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (سورة مريم: 16)
والمقصود بيوم بعثه حيًّا: يوم القيامة؛ إذ لا يقول أحد إنَّ يحيى في السماء. ثم إذا كان عيسى عليه السلام في السماء فإنَّـه سيهبط، ولن يُبعث، إذ إنَّ البعث هنا بعث من الموت، بينما يقول البعض إنَّ عيسى حي في السماء، وليس ميتًا.
ولو كان هناك صعود لـه إلى السماء لقالت الآية: والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أصعد إلى السماء ويوم أنـزل ويوم أموت ويوم أُبعث حيًّا. فلو كان صعد إلى السماء لكان اليوم يومَ سلام خاصًّا بـه تميز بـه عن البشر جميعًا، وتفوَّق بـه على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلّم.
سادسًا: قولـه تعالى (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنـها تُخْرَجُونَ) (سورة الأعراف: 26)
لم يقل تحيون فيها، بل استخدم صيغة تفيد الحصر، وهي صيغة تقديم شبـه الجملة (فيها) على الفعل؛ والمعنى أنَّكم تحيون في الأرض حصرًا، فلا يمكن أنْ يحيا الإنسان في هذه الدنيا في غير الأرض، أو يموت في غيرها، أو يُبعث منْ غيرها.
ترددات قناة mta3 العربية:
Hotbird 13B: 7° WEST 11200MHz 27500 V 5/6
Eutelsat (Nile Sat): 7° WEST-A 11392MHz 27500 V 7/8
Galaxy 19: 97° WEST 12184MHz 22500 H 2/3
Palapa D: 113° EAST 3880MHz 29900 H 7/8