loader
 

السؤال: يتهم البعض الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بأنه قادم من بيئة بدوية (ضحلة) وأن الطابع البدوي تجده في كل ما هو إسلامي وأن الإسلام ليس سوى مجموع العادات والتقاليد البدوية، بالإضافة لبعض ما سمعه محمد من الهجس اليهودي والمسيحي المنتشر في منطقة الجزيرة العربية آنذاك... بل ويقولون أيضاً أن كل التشريع الإسلامي تشع منه البداوة و البدائية، وأنه عليه الصلاة والسلام قد احتكر النظام القبلي لحسابه ولمصالحه! فكيف نرد؟ شكراً

إن هذه التهمة السخيفة تدل على جهل من أطلقها بكل ما يتعلق بالعرب وبكل الظروف المحيطة لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بدويا بل كان عربيا من مدينة تجارية هامة تمارس نشاطات حضرية من تجارة وسياحة دينية، وكانت تشكل هي والطائف المجاورة مركزا ثقافيا للجزيرة العربية كلها. كما أن الأغنياء من القرشيين من أهل مكة كانوا يمتلكون مزارع في الطائف ويمارسون الزراعة. كذلك فعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة، سعى أولا للهجرة إلى الطائف الزراعية ثم إلى المدينة المنورة. والمدينة المنورة كانت مركزا مدنيا زراعيا وتجاريا أيضا. فلم يسعَ للالتحاق بالأعراب في البادية لكي يباغت العرب ويهاجمهم ويكون قادرا على التحرك بحرية تجعل من الصعب عليهم ملاحقته!
إن هؤلاء الأغبياء الذين أعماهم الجهل والتعصب لا يعلمون أن العرب كقوم كانوا ينقسمون إلى فريقين أساسيين: الأول هو الحضر أو أهل المدن والقرى وكانوا مخصوصين ومعرَّفين باسم العرب؛ لأنهم هم الفئة الأكبر من العرب، والثاني هم البدو الذين كانوا يتنقلون في أرجاء الجزيرة وكانوا يسمون بالأعراب. وقد كان الأعراب يشكلون نسبة ضئيلة من الأمة العربية، كما كانوا موضع تندر من العرب عموما كما تدل على ذلك كتب الأدب والآثار. وقد تميز فريق كبير من الأعراب بالنفاق كما يشير القرآن الكريم:
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة 97)
ولقد استثنى القرآن الكريم فئة من الصالحين منهم، وهم الذين آمنوا وأخلصوا لله ورسوله. ولا ينبغي إنكار بعض الصفات الحميدة التي امتاز بها الأعراب أيضا.
ولعل في هجوم القرآن الكريم على الأعراب ما يجب أن يكون ملفتا للنظر. لا شك أن القرآن لا يهاجم فئة من الناس على أساس عرقي أو فئوي، وإنما هاجم القرآن الكريم الثقافة الأعرابية السائدة التي تسهم في خلق النفاق أكثر من غيرها. فالثقافة الأعرابية تجعل البدوي شديد التعصب لقبيلته، وليس عنده انتماء فوق هذا الانتماء، كما أن الأعراب يميلون باتجاه القوي ويتحالفون معه، حتى إذا بدر منه ضعف انقلبوا عليه. وقد كان هذا ديدنهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده. وليس صعبا تتبع أثر هذه الثقافة على السلوك. وعلى كل حال، فمن خرج من هذه الثقافة وأسلم وحسن إسلامه فقد خرج من هذه الفئة تلقائيا.
والسؤال هنا، لو كانت البداوة هي السمة الغالبة للإسلام، فلماذا يهاجم القرآن الكريم هذه الثقافة؟! لماذا لم يقم بتثبيتها وتمجيدها ومحاولة الدفاع عنها؟! كذلك فإنه لا يخفى على أحد أن التعاليم الإسلامية تتناقض مع الثقافة الأعرابية التي تقيم وزنا كبيرا لرابطة الدم والمصالح القبلية. فالإسلام أنشأ مجتمعا مدنيا يقوم على أخوة في العقيدة وعلى قيم العدل والمساواة بين كل فئات البشر وعلى نبذ العصبية القبلية التي وصفها الرسول بقوله : دَعوها فإنَّها مُنْتِنَةٌ!
أما الادعاء بأن التعاليم الإسلامية تشع منها البداوة والبدائية، فكفى بالتاريخ شاهدا على ذلك. إن التعاليم الإسلامية قد أدت إلى إنشاء دول عظيمة في ذلك الوقت كانت مركز إشعاع حضاري للعالم أجمع. كما أن العلوم التي طورها العرب والمسلمون كانت حجر الأساس في النهضة العلمية والحضارية الحالية، ولا ينكر ذلك عاقل.
إن الوقت الذي ظهر فيه الإسلام في بلاد العرب كان وقت جاهلية مطبقة على العالم أجمع، ولم يكن العرب وحدهم من يقبعون تحتها. لقد كان عصر ظلام دامس بدأ بالانقشاع في بلاد العرب ثم بدأ يشع خارجها ويخرج الناس من الظلمات إلى النور. ولم تكن الدول الكبرى في ذلك الوقت (كالفرس والروم) سوى دول عسكرية تسعى للسيطرة على غيرها ونهب ثرواتها. وكانت كل الشعوب التي تحتها ليست سوى شعوب مستعبدة لا وزن لها ولا قيمة. لقد حرر العرب والمسلمون شعوب الأرض من ظلم تلك الدول الكبرى ونقلوهم من العبودية إلى الإخاء. وليس أدل من ذلك إلا ما ثبت بعد كل هذه القرون واستمر. لقد امتد الإسلام إلى أقطار ترسخ فيها وأصبح من المستحيل اجتثاثه بفضل الله بسبب حب المسلمين لدينهم وتعشقهم له. إن هذا الحب الذي ورثه الأبناء عن آبائهم الذين قبلوا الإسلام من غير العرب لم يكن مشوبا بمرارة أو قهر أو أي نوع من الحسرة، ولو كان هناك أدنى شعور بالقهر أو الظلم أو الإكراه لتعاظم في المستقبل وأدى إلى انخلاع تلك الشعوب من الأمة الإسلامية. إن المسلمين من غير العرب هم الغالبية العظمى من المسلمين، وهم جميعا يحبون الإسلام وهم مستعدون للتضحية في سبيله بكل غالٍ ونفيس. وقد عمل المسلمون من غير العرب على خدمة الثقافة الإسلامية والوجود والكيان الإسلامي على مر العصور، وقدموا خدمات أساسية وهامة، ولم يكن الأمر مقصورا على العرب وحدهم. فحبذا لو تذكر هؤلاء تلك المفاصل الهامة التي لا تخفى على أحد. وإلا فإن الشمس لا يمكن حجبها بغربال، وهذا الاعتراض واهٍ لا يمكن أن يتمسك به منصف أو عاقل.

أما القول بأن "الهجس" اليهودي والمسيحي هو مصدر التعاليم الإسلامية، فما أعجب هذا الادعاء! فقد كانت المسيحية الكاملة موجودة في ذلك الوقت ولم تكن سوى عقبة في طريق التقدم والحضارة. وقد مارست الكنيسة ممارسات أدت إلى إبقاء أوروبا ترزح تحت سبات عميق لم تفق منه إلا قبل بضعة قرون وذلك عندما تمردت على سلطة الكنيسة وعلى تعاليم المسيحية التي ظهر أثرها على امتداد تلك القرون. إن ما تعيشه الدول الغربية في هذا الوقت من تقدم وحضارة لا يرجع إلى التعاليم المسيحية مطلقا، بل هو ناتج عن ثورة ضدها. فإذا كانت المسيحية الكاملة قد ثبت فشلها كدين صالح للنهوض بالأمم، فكيف يمكن أن تكون بعض الأفكار المتفرقة منها هي المصدر لتعاليم ثبت نجاحها بشكل عظيم!

أما اليهودية، فما زالت غارقة في فكرها العنصري المنغلق الذي لا يصلح لبني إسرائيل أنفسهم، والذي أدى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى استعداء العالم عليهم وإلى تعرضهم لكثير من المصائب. ولا أدري كيف يمكن لفكر مغرق في العنصرية أن يكون مصدرا لتعاليم سامية إنسانية لا تقيم وزنا للعرق ولا للون ولا للفئة!

وفي الحقيقة فإن الفكر اليهودي هو الذي يمكن أن يوصف بالبدوي أو البدائي، لأنه فكر قبلي عفا عليه الزمن. وليست المسيحية بسالمة من هذا الفكر القبلي الذي يحصر النبوة في قوم بعينهم من دون العالمين، والذين خرج منهم أيضا الرب المخلص يسوع حسب زعمهم، والذين خرج فيهم بولس المؤسس الحقيقي للدين المسيحي. وباختصار، فإن كل البركات والفضائل محصورة فيهم وليس لباقي الشعوب إلا أن تتناول الفتات الذي يقذف للكلاب حسب الإنجيل. وقد يكون مألوفا أن يتعصب أحد لفئته أو عرقه، أما أن يتعصب لعرق آخر ويقر بأفضليتهم وينادي بتمجيدهم وتحقيق مصالحهم فهذا من أعجب العجائب! ولا يخفى على أحد أن الحركات التجديدية المسيحية قد ارتدت إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، وأكدت على ارتباطها بشكل أوثق بالتاريخ والديانة اليهودية، كما أنها عملت على تقديم دعم غير محدود لليهود كما هو مشهود في هذه الأيام.

ومن أعجب العجائب أن يرضى بعض المسيحيين العرب أن يكونوا كلابا على مائدة بني إسرائيل ويأكلون من الفتات (مرقس 7: 24-29)، بل ويدعون غيرهم لينضموا إليهم إلى هذه المائدة الفاسدة، بينما يدعوهم الإسلام لكي يكونوا أحرارا شركاء على مائدة محمد صلى الله عليه وسلم، دون تبعية لقوم أو جنس أو عرق. نسأل الله أن يرفع الغشاوة عن أعينهم ويهديهم بفضله.. آمين.

تميم أبو دقة


 

خطب الجمعة الأخيرة