يشرح خليفة المسيح الثاني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :
"لم يرد في الكتاب المقدس ذكر لمعجزة خلق الطير هذه التي اشتهر بين الناس أنه قام بها. ولو كان عيسى حقا قد خلق طيرا، فليس هناك ما يبرر حذفها من الكتاب المقدس، وعلى الأخص أن معجزة مثلها لم يقم بها أي نبي سابق. ويكون ذكرها دليلا على أفضليته على كل الأنبياء بالتأكيد، وسندا في ادّعائهم بلاهوته الذي خلعه عليه أتباعه المتأخرون. إن من بين معاني لفظة "خلق" القياس، والتحديد، والتصميم، والتشكيل، والصنع، والإيجاد، كما جاء في شرح الكلمات. وقد استُعملت الكلمة في الآية بالمعنى الأول لها. فإن فعل الخلق بمعنى الإيجاد، لم ينسب في القرآن المجيد إلى أي كائن آخر سوى الله ﷻ. والواقع أن القرآن المجيد قد أكد بشدة على أن صفة الخلق إنما هي صفة تفرّد بها الله ﷻ، وأعلن مرارا وتكرارا بأنه ﷻ هو وحده الخالق لكل شيء، وكل من نُسِبَ إليه الخلق ليس إلا مخلوقا لله، محروما من القدرة على خلق أي شيء. فمثلا، يقول تعالى: (قُل اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد:17)، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٌ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النحل:21و22)، (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (الحج:74)، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا) (الفرقان:4)، (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُوني مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان:11)، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُوني مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ) (فاطر:41)، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُوني مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ) (الأحقاف:5).
أما تلك الفكرة السخيفة التي بمقتضاها يقال إن صفة الخلق التي تفرد بها الله وحده يمكن أن يُفوّضها سبحانه إلى غيره مؤقتا، فإن القرآن المجيد يرفضها بالمرة، إذ يقول تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (النحل:71و72)، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر:39).
وعلى هدى ما سبق من بيان، وإذا تنبهنا إلى المعنى المجازي لكلمة (الطين) فإن قوله تعالى (وَأَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَصِيرُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ) يعني أنه إذا اتصل بالمسيح شخص عادي وضيع النشأة، ولكنه يمتلك القدرة الفطرية على النمو والارتقاء، وقَبِلَ رسالته، فإن حياته تتحول تحولا كاملا، من رجل يتمرّغ في الوحل، ولا يرى ما وراء اهتماماته الدنيوية وحاجاته المادية، فإذا به يتشكل طيرا محلقا في أجواء السماوات الروحانية. وهذا هو عين ما حدث. إن جماعة الصيادين في منطقة الجليل الذين كانوا موطئ الاحتقار لوضاعتهم، استحالوا إلى طيور محلقة، بفضل الدّفعات الكريمة في تعاليم سيدهم، وأصبحوا هم أنفسهم معلمين ربانيين يرشدون بني إسرائيل، ويتحملون كل أنواع العذاب والأذى، ويقدمون التضحيات التي يزدان بها تاريخ أية أمة. يقول المسيح عليه السلام: "لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. ألسيت الحياة أفضل من الطعام. والجسد أفضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحريّ أفضل منها" (متّى 6: 25و26).
ويمكن أيضا فهم معجزة خلق الطير بشكل آخر. لقد كان القوم في عهد عيسى مغرمون بممارسة العلوم الغامضة الخفية كقوة التأثير في الناس وما أشبه. ومن المحتمل أن يكون الله تعالى قد أعطاه مثل هذه القدرة ليؤثر على الناس بما يجعلهم يصدّقون به ويؤمنون برسالته. وفي هذه الحالة تكون الآية أن عيسى صنع نماذج صغيرة من الطين على هيئة الطير، ثم أثر على الموجودين بالقدرة الخاصة التي وهبه الله تعالى إياها، بحيث بدت لهم تلك النماذج طيورا تحلق في الجو. ولكنها لم تتحول إلى طير حقيقي، فما أن يضيع التأثير حتى تبدو كتلا من الطين مرة أخرى. وهذه المعجزة العيسوية تشبه معجزة العصا الموسوية، حيث بدت عصا موسى للحاضرين كأنها ثعبان حقيقي، ولكنها لم تكن كذلك في حقيقة الأمر. ومهما كانت دلالة الآية، فإن عيسى عليه السلام قد قام بها (بِإِذْنِ اللهِ) ولا يملك عيسى مقدرة على الخلق لمزيد من الايضاح (راجع كتاب إزالة الأوهام لسيدنا أحمد المسيح الموعود عليه السلام)." (التفسير الكبير)