أما صيغة التنكير في قوله تعالى [أحد] فهي أسلوب معروف عند العرب للبيان والتعريف فلا يضاف الألف واللام، أي قل للجميع بأن الله واحدٌ لا شريك له، مثال ذلك: "قل هو الموت واحد"، فحذف الألف واللام من صفة الواحد دلّ على التعريف، لأنك إن قلتَ "قل هو الموت الواحد" فَلَمْ تُعرّف الموتَ لأنه معروف والدليل وجود الألف واللام، ولهذا كانت (واحد) غير المعرّفة ضرورية للبيان في هذه الجملة. كذلك القول: "قل هي السرقة حرام" و "قل هو الليل سكون"، فَلَو قلتَ "قل هو الليل السكون" و"قل هي السرقة الحرام"، فلن يُفهم من الجملة البيان بأن السرقة محرّمة وأن الليل سكنٌ لأن كلاهما مُعرّف أصلاً لدى السامع بدلالة الألف واللام، أي ليس في الجملة بيان ولا تعريف. لذلك جاء قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] بدون ألّ التعريف على [أحد] للبيان والترجمة كما نقله الماوردي في تفسيره عن المبرد.
كذلك تدل الصفة "أحد" بصيغة التنكير على التفخيم والتعظيم لله تبارك وتعالى، فعُلم بأنه أحدٌ أي بلا شريك ولا يحيط به شيء أو أحد. وأيضاً دلّ حذف ألّ التعريف على إضمار الصفة الأحدية، فأدّت [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] معنى "قل هو الله الأحد". كما أن صفة "أحد" هي الصفة الوحيدة التي لا تقبل المشاركة، ولذلك تبعتها "الصمد" لتؤكد على أن الأحد في الجملة السابقة لا ثاني له، فمع أن القول المعروف "هذا أحد الناس" يقصد به واحداً منهم، إلا أن "أحد" في الجملة التعريفية [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ليست مضافة لجمع ولا لمفرد بل أتت منفردة لتشير ألى التفرّد والتوحيد بذاته. أما لماذا وردت "الصمد" معرّفة، فلأنها مبتدأ وخبر "الله الصمد"، وكذلك لأنها صفة تقبل المشاركة مثل القول: "هذا رجل صمدٌ" أي الشجاع الذي لا يؤثر عليه الجوع ولا العطش في النوازل والحروب (انظر معجم لسان العرب) بعكس صفة "الأحد" التي لا تقبل المشاركة، فلا يوجد شيء "أحدٌ" بذاته لا ثاني له إلا الله جلَّ جلاله. وحول صفة الأحد يقول خليفة المسيح الثاني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"هناك لفظان في العربية لأداء هذا المعنى: الواحد والأحد؛ فقد ورَدَ: "الواحد أوّلُ عدد، يقال: واحد اثنان ثلاثة" (الأقرب). ولكنك تقول "أَحَد" حين لا يكون في ذهنك أيّ تصوُّر عن الثاني والثالث. .. أي الأوحد، وفي الإنجليزية لفظ: Oneness. وقد ورد في القاموس: "الفرق بين الأَحَد والواحد أن الأَحَد اسمٌ لِمَنْ لا يشاركه شيء في ذاته، والواحد اسمٌ لمن لا يشاركه شيء في صفاته" (الأقرب).. أي أن الأَحد يُستعمل لله تعالى بمعنى التأكيد على وحدانية الله في ذاته.. أي لا تُتصور ذاتٌ أخرى معه، أما الواحد فيُستعمل تأكيداً على وحدانية الله في صفاته.. أي أنه كاملٌ في صفاته ولا يوجد غيره هو كامل في صفاته. فقوله تعالى [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ] يعني أَعلِنْ بين الناس أن الْحَقَّ والصدق هو أن اللهَ أحَدٌ في ذاته. ... إعلمْ أن لفظ [أَحَدٌ] ذو خصوصية عجيبة، إِذْ لا يوجد معه مفهوم الشيء الثاني، بينما يوجد مفهوم الثاني مع كل الأرقام الأخرى حتى الواحد والأول أيضا. فالواحد يعني الأول بالنظر إلى الآخر، والنسبة تستلزم مفهومَ الثاني بعده، وإلا لا يمكن أن يوجد هناك معنى النسبية؛ إِذْ لا نستطيع أن نقول اليمين من دون فكرة اليسار، ولا يمكن أن نقول الشَّمال من دون فكرة الجنوب، أما الأحد فينفي وجود الثاني معه كليةً، إذ لا يُتصوَّر معه الثاني، وأداء هذا المفهوم بلفظ آخر مستحيلٌ. فصفة "الأحد" تُنـزِّهُ الله تعالى عن المخلوقات كلها. والحق أن عظمة الله تعالى إنما تتجلى في أحديّته، لأنه كلما نزل الله تعالى للتعلّق مع مخلوقه فلا بد أن تبدو صفاته محدودةً، شأن الشمس التي يبلغ قُطرها 800 ألف ميل (الموسوعة البريطانية تحت: Sun)، ولكنها تبدو صغيرة للعيون كونها بعيدة؛ أما إذا اقتربت كثيرًا فلن تقدر على رؤيتها، فكما أن الشمس إذا لم تظهر للعيون أصغرَ من حجمها، فلن تقدر على رؤيتها لكون العيون محدودة القدرة، كذلك فإن الله الذي صفته الأحد -وهي صفته الأساسية العظمى- عندما يتجلّى على العباد فإنما يتجلّى بتجلٍّ ضئيل يستطيع العباد رؤيته؛ ولا شك أنه تجلٍّ غير كامل. فثبت أنه ليست هناك صفة من صفات الله تعالى أدلَّ على عظمته من صفته الأحد.
والواقع أن الله تعالى ربٌّ من منظورين: فهو ربٌّ مِن منظورِ أَحَدِيّته، وربٌّ من منظور مخلوقه، أما ربوبيته من المنظور الأول فهي أعظم من أن يقدّرها أحد، وأما ربوبيته من المنظور الثاني فهي محدودة. كذلك فهو رحمان من منظورين، فرحمانيته التي تتعلق بأحديته تفوق التصوّر والتقدير، أما رحمانيته المتعلقة بعباده فيمكن أن يلمسها كل عاقل. والحال نفسه بالنسبة إلى مالكيته وعلْمه. مما يعني أن صفاته المتعلقة بالعباد محدودة، أما صفاته المتعلقة بأحديته فغير محدودة؛ ولعدم فهْمِ هذا الفرق بين هذين الأمرين قد وقع جدال كثير بين الناس، فقال بعضهم أن الله لا يُرى، وقال غيرهم: بل إنه يُرى، مع أن كِلا الفريقين مصيبٌ فيما يقول. فمَن قال إن الله يُرى، فإنما قال ذلك نظرًا إلى تجلّي صفاته المتعلقة بعباده، أما مَن قال إنه ﷻ لا يُرى، فإنما قال ذلك نظرًا إلى صفاته المتعلقة بأحديته. فالحق أن الله تعالى لا يُرى ما لم ننظر إليه من منظور الصفات المتعلقة بعباده، فمَن قال إنه قد رأى اللهَ تعالى، وهو يعني أنه قد رأى صفاته من منظور أَحَديّته، فقد أخطأ، إذ ورد في الحديث أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت النبيَّ ﷺ: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ (مسلم، كتاب الإيمان)، أما الذي قال إن الله تعالى لا يُرى في أيّ تجلّياته فهو مخطئ أيضا. الواقع أن كلا الفريقين يتكلم من وجهة نظر مختلفة.
باختصار، إن أحدية الله تعالى نوعان: أحدهما ما لا نستطيع إدراكه إلا بأسلوب النفي، ولذلك قال الله تعالى [الله الصَّمَدُ].. أي: هو الذي يستحيل أن يعمل الإنسان من دون الاستعانة به شيئًا. وكأنه تعالى يتحدث هنا عن أحديته المتعلقة بالعباد، فيقول: أنا ذلك الإله الذي لا تستطيعون فعْل شيء من دون عونه ونصرته، فالإعراض عن بابي لن ينفعكم شيئا، وإذا توجهتم إلى غيري لسدّ حاجاتكم فاعلموا أن الجميع محتاجون إليَّ، فمن الغباء أن يؤْثر الإنسان الكأس على الينبوع، فأنا ذلك الينبوع الذي يملأ الناس منه كيزانهم. فما دام الواقع أن كل ما تجدونه إنما تجدونه مني، فلماذا لا تتقربون إليّ وإيايَ تسألون؟
لقد سبق أن ذكرنا عند شرح الكلمات أن من صفات الله الأحد والواحد، وبينهما فرقٌ؛ ذلك أننا إذا قلنا واحد، فلا بد من الإقرار بوجود الثاني والثالث والرابع وهلمّ جرًا، فكأننا نقرّ أن الأشياء الأخرى قد نبعت منه سبحانه وتعالى. وكما أن الأرقام 2 و3 و4 وغيرها تنبع كلها من الواحد، كذلك كل ما في الكون قد خرج من عند الله تعالى، وكل شيء بحاجة إلى الله لبلوغ كماله. وكما أنه لا نور من دون ضوء الشمس، كذلك من المحال أن يوجد شيء آخر من دون فضل الله وعونه. هذا هو مفهوم كون الله واحدا.
أما صفة الأحد، فمفهومها أن الله أحد فريد في ذاته. فالأحد يفيد النفي بنوعين، أحدهما أنه تعالى لم يصبح من الاثنين واحدًا، والثاني أنه لا يمكن أن يكون من الواحد اثنين. أما الواحد فيمكن أن يكون اثنين إذا عددنا تصاعديا، ويمكن أن يكون من الاثنين واحدا إذا عددنا تنازليا، إذ يوجد بين الله تعالى وغيره من المخلوقات نوع من الاشتراك فيما يتعلق بصفات الله تعالى، حيث نجد في الأشياء الأخرى انعكاسًا لصفاته إلى حد ما، مما يعني أن قولنا: إن الله واحد، إقرار منا بوجود أشياء أخرى معه تعالى. أما لفظ الأحد فلا ثاني معه، لأننا نقول: واحد اثنان ثلاثة، ولا نقول: أحد اثنان ثلاثة. إذًا، فالمخلوق مشترك مع الله تعالى في صفاته إلى حد ما، ولكنه ليس مشتركًا معه في ذاته؛ فمثلاً: إن الله يسمع، ونحن أيضا نسمع نتيجة انعكاس صفاته هذه علينا. يقول بعض الجهلة أن قولنا بأن الله يسمع ونحن نسمع أيضا قولٌ فيه شرك ووثنية، والحق أنه ليس فيه أي شرك، لأن قدرتنا على السمع إنما هي انعكاس لصفة الله السميع. المهم أننا عندما نقول إن الله واحد، فكأننا نقرّ بوجود مخلوقات أخرى تعكس صفات الله تعالى بعونه وقدرته، لأن هناك 2 و3 و4 و5 بعد الواحد في العد التصاعدي، أما إذا عددنا تنازليًا فنرجع إلى الواحد مرة أخرى، ولكن لفظ الأحد يدلّ أننا لا نستطيع أن نعدَّ أكثر منه فلا نقول: 2، 3، 4، ولا يمكن أن نرجع من الأكثر إلى الأحد.
والحقُّ أن هذا هو أساس الخصام، فكثير من الأمم تقول بأن الله اثنان أو ثلاثة أو أكثر، ثم يرجعون من الكثرة إلى الوحدة ويقولون إنه واحد، كما هو حال المسيحيين الذين يقولون إن الأب والابن وروح القدس كلهم صاروا واحدا. ولكن سورة الإخلاص تبيّن أن هذه الأقانيم الثلاثة إن دلت على وحدانية الله تعالى فإنها لا تدل على أحديته التي يقتضيها التوحيد الكامل. ولما كان من المقدر أن يتفاقم خطأ عقيدة الثالوث في الزمن الأخير خاصة، فنبّه إليه القرآن الكريم عند ختامه وقال [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ].. أي قُلْ إن الله فريدٌ أحد، فلا يمكن أن ينشأ من هذا الأحد ابن ولا روح قدس، كما لا يمكن أن يصير هؤلاء الثلاثة واحدا. من المحال أن يتنوع هو سبحانه وتعالى، أو يرجع من التنوع إلى الأحد. باختصار، قد أنزل الله تعالى سورة الإخلاص لإثبات أحديته تعالى في الزمن الأخير خاصة.
في هذه السورة الوجيزة، إذ برهن الله على وجوده تعالى، فإنه قد استأصل الشرك كلية أيضًا.
والشرك نوعان: أحدهما الاعتقاد بوجود آلهة عديدة وإن كان بعضها أكبر من بعض، وثانيهما: اعتبار كل ما سوى الله مخلوقًا، مع إعطاء بعض هذه المخلوقات درجةَ الألوهية. فالنوع الأول هو شركٌ في ذات الله، والنوع الثاني هو شركٌ في صفات الله، وقد فنّد الله تعالى بقوله [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] عقائد كل أولئك الذين يؤمنون بإلهين أو ثلاثة، أو يتخذون له ابنًا أو بنات، أو يعبدون الأصنام. فبقوله تعالى أولاً [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]، ثم بقوله [اللَّهُ الصَّمَدُ]، ثم بقوله [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ] قد بيَّنَ اللهُ تعالى أن الذين يشركون الأشياء الأخرى في صفات الله هم على الباطل، فإن الإنسان مهما كان عظيمًا فهو محتاج إلى الله تعالى في كل حال، إِذْ من المحال لمخلوق أن يبلغ درجة الله، ولا أن يشترك في فعله تعالى." (التفسير الكبير، الإخلاص)