مسكين كل من يظن أن القُرآن الكَرِيم عبارة عن سجع جميل فقط. يجب أن يشهد كبار أدباء العالم من أهل اللغة المسلمين والمسيحيين والمؤرخين الذين اعترفوا بجمال وعظمة وإعجاز لغة القُرآن المَجِيد وبعدم إمكانية تأليف مثيل مثيله، يجب أن يشهدوا على ما يكتبه هذا الشخص وعندها فقط يمكن أخذه على محمل الجد والاهتمام، أما أن يكتب أو يدفع لمن يكتب له ثم هو وحده الذي يعجب بما يكتب رغم أنه لا يملك من اللغة العربية وزناً من آلاف الأوزان التي يزخر بها القُرآن الكَرِيم. فهذا جهلٌ في الواقع من هذا الشخص وسقطة لا بد أنه قد غفل عنها أو لعله كان مدركاً ولكن غامر بهذا السقوط على رؤوس الأشهاد لتُكتَب هذه المهانة في صحيفته وسجّله المهني إلى الأبد. إنَّ تحدّي السورة أو الآية الواحدة في القُرآن الكَرِيم ليس فقط التشريع المتكامل بل إنَّ أية واحدة منه تضمُّ ملخّصاً للوضع والأحداث الراهنة بكلمات قليلة ولكن بأعلى مستوى لغوي على الإطلاق وبتعبير بلاغي يفوق المعلّقات ولكن ليس كشعر بل كنثر، ورغم كونه يتحدث عن الواقع الراهن والأحداث فيجب أن يحمل نبوءة ونبوءات للمستقبل ويلتزم بأسمى معايير الأخلاق، وأن يبقى قابلاً للقراءة والاستمتاع إلى عشرات القرون القادمة أيضا وأن يحاكي أسلوب القُرآن الكَرِيم السهل الممتنع بالكامل. لهذا لا قيمة لما يكتبه المرتدّون لأن القُرآن الكَرِيم ليس مجرد كلمات حلوة مرتبة ولكن فيه إعجاز لغوي وسهولة عجيبة وتعقيد ومركبات بالغة التماسك وتعابير جزيلة وموجزة في آن وخطاب للعصر واليوم ونبوءات للمستقبل القريب والبعيد وبخطاب للمستقبل أيضاً ويشهد له عظام أهل الأدب واللغة، أما أدعياء العلم والمعرفة فيصرّون على السقوط العلمي والأخلاقي، وهم بالطبع أحرار. وعموماً ننقل فيما يلي كلام الخليفة الثاني للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول هذا الموضوع أي اعجاز القُرآن الكَرِيم وذلك في تفسير حضرته لقوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يونس
التفسير:
"تتضمّن الآية خمسة براهين ساطعة على كون القرآن الكريم من عند الله تبارك وتعالى، وإليكم بيانها:
البرهان الأول: إن هذا الكتاب يحتوي على معارف ومفاهيم لا يقدر الإنسان على معرفتها بنفسه، وإنما هو الله وحده الذي يُطلع عليها من يشاء، إذ يقول: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ] فأعلن بذلك أن فيه معارف وأمورًا لا يعلمها إلا الله وحده. ونعلم من دراسة القرآن أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله هي الأمور الغيبية والأنباء المتعلقة بالمستقبل. ففي هذه السورة التي نحن بصدد تفسيرها يقول الله تعالى:[فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ] (الآية: 21). فالكلام الذي يشتمل على أنباء غيبية لا يقدر على بيانها إلا الله، فكيف يمكن أن ينشأ الظنُّ أنها من عند إله غير الله سبحانه وتعالى.
ومما يدعو للعجب، أن القسيس "ويري" قد بسط لسانه بالطعن في الجزء الأول من هذه الآية وقال بأن هذا ادعاء من القرآن لا دليل عليه إذ اكتفى القرآن بقوله: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ]، ولم يأتِ ببرهان على ادعائه، ولم يبين كيف ولماذا!؟ (تفسير ويري للقرآن).
إنه لمن المؤسف حقاً أن أقول إن "ويري" يجهل تماماً المحاسنَ الدقيقة اللطيفة التي لا يمكن بدونها أن تُسمَّى أيّ من اللغات لغةً، ولا سيما محاسنَ اللغة العربية التي تمتاز وتنفرد عن غيرها في أداء المعاني الواسعة بكلمات موجزة جدًا.
الواقع أن كلمة (هذا) في قوله تعالى [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ..] هي الدليل الذي ساقه القرآن على صحة هذا التحدي القرآني، إذ لم يقل الله (وما كان القرآن..) وإنما قال [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ]. فلماذا أضاف كلمة (هذا) يا تُرى، مع أن كلمة (القرآن) تطلق على كتاب واحد فقط في العالم، وليس على كتابين أو أكثر حتى تمس الحاجة إلى زيادة كلمة (هذا)؟!
الحق أن الله تبارك وتعالى قد أضاف كلمة (هذا) تأكيدًا على أن هذا الكتاب يحتوي على معارف عالية ومفاهيم سامية بحيث يستحيل على الإنسان أن يأتي بمثلها. فالجملة القرآنية ليست دعوى بلا دليل، وإنما فيها الدليل أيضا، إذ تعلن أن في هذا القرآن أمورًا لا يقدر أحد على الإتيان بها إلا الله وحده، ويمكن معرفتها بكل سهولة في مواضيع القرآن الكريم، وإلى هذه الأمور الفريدة النادرة تُشير كلمة (هذا).
وهناك في كلّ لغة أساليب وجُمل كهذه تؤدي هذا المعنى. فمثلاً في لغتنا الأردية يقولون على سبيل الاستفهام الإنكاري: هل هذا الشخص يكون كاذباً، أو هل هذا الأمر يعتبر خطأً؟ ولا أحد من العقلاء يمكن أن يقول إنها دعاوَى بلا دليل، لأنها تعني: كيف يمكن لهذا الشخص.. المعروف بين القوم بصفاته الطيبة التي لا حاجة لذكرها... أن يُعتبر من الكاذبين.
فكلمة (هذا) تؤدي كل هذه المعاني، كما هي الحال في الآية أيضًا. ولكن الأسف على أن هؤلاء القساوسة الجاهلين تماماً بمحاسن اللغة العربية ودقائقها، يأخذون الأقلام ويجلسون لكتابة تفسير كلام الله القرآن الكريم، فيرتكبون أخطاء فادحة، كما يوقعون فيها غيرهم ممن يثقون بهم على جهلهم. فيا ليتهم كانوا قد رجعوا واستشاروا بعضاً من إخوانهم المستشرقين غير المتعصبين.
والبرهان الثاني الذي ساقه القرآن على كونه منهجاً روحانياً كاملاً، هو [وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] أي أنه كما يؤكد بنفسه على كونه كلاماً من عند الله وليس افتراء أحد، وذلك باشتماله على أنباء غيبيّة، فإن صدقه يتأكد من كلام الأنبياء السابقين أيضًا، إذ يحتوي كلامهم على أنباء عديدة عن نـزول كلام كهذا وقد تحققت في شكل القرآن. فأيها الكفار! إنكم إن لم تصدّقوا القرآن فسوف تُعتبرون مكذِّبين للأنبياء الأولين، إذ كذّبتم ما أدلوا به من أنباء في شأن نـزول هذا الكتاب.
ولنعلم أن من أساليب القرآن أنه -بدلاً من أن يقول إن الأنبياء الأولين مصدِّقون لمن بعدهم- يتحدث عن تصديق المتأخرين منهم للأولين، وقد اتبع هذا الأسلوب عند الحديث عن عيسى ويحيى وغيرهما من أنبياء الله عليهم السلام. ذلك أن الأولين يُدلون بأنباء عن الآخرين ولا ريب، ولكن الذين يأتون فيما بعد يختمون بدورهم على صدق الأولين بتحقيق ما أنبئوا به من قبل. فكان الطريق الأمثل لبيان هذه الحقيقة ما اختاره القرآن، لأن القول بأن هذا النبي أو هذا الوحي يصدّقه الأنبياء الأولون، لا يحمل من الوقع والتأثير ما يوجد في قولنا: إن هذا النبي أو الكلام هو الذي يتم به تصديق النبي السابق، وإلا للزم تكذيبه، إذ إنّ هذا الأسلوب يفحم ويخضع في الحال أتباع النبيين السابقين.
لقد أتى القسوس باستنتاج غريب من هذه الجملة وأمثالها إذ يقولون: إنها تبرئ ساحة التوراة والإنجيل من تهمة التحريف بأيدي الناس! (تفسير ويري)
والحقُّ أن كل ما يعنيه القرآن بكونه مُصدِّقاً لما بين يديه من الكتب السماوية هو مجرد الإعلان عن تلك الكتب أنها كانت من مصدر إلهي. أما قولهم بأن هذا يعني أن الوحي السابق لا يزال محفوظاً من التحريف فإنهم بذلك يحمّلون الكلماتِ القرآنية ما لا تحتمل ويستنتجون ما لا يصح أبدًا. إن القرآن حافل بالأدلة على وجود التحريف في التوراة والإنجيل، كما أن سنة الرسول الكريم ﷺ لشاهِد قوي على ذلك. فلو كانت الكلمات القرآنية تعني في الحقيقة ما ذهب إليه هؤلاء القسيسون لما تردد اليهود والنصارى في الاعتراض على الرسول ﷺ، ولكن التاريخ لا يذكر أي اعتراض من جانبهم، بل الثابت أنه ﷺ لَفَتَ نظر المسلمين لِمَا في كتبهم قائلاً: "لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم" (البخاري، الشهادات). فلو كانت كتبهم خالية من التحريف تماماً لمَا منع الرسول ﷺ المسلمين من تصديق ما فيها.
وإن قيل: فلماذا يستشهد القرآن بالتوراة والإنجيل في معرض الحديث عن بعض القضايا، إذا كان يرى أن فيهما تحريفاً؟ فالجواب هو أنّ هذا لا يدل أبدًا على خلوّهما من التحريف، إذ إنّ العالم كلّه يستشهد بالكتب التاريخية، ومع ذلك ليس هناك عاقل واحد يعتبر أيّاً منها صحيحاً تمام الصّحة. إنما يعني هذا الاستشهاد تصديقَ حادث معين مذكور في كتاب ما وليس كل الكتاب.
والبرهان الثالث: هو [وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ] أي أنّ في القرآن شرحاً وتفصيلاً للكتب السابقة. وهذا أيضا برهان عظيم على صدق القرآن وعلى كونه من الله ﷻ، إذ يستحيل فهمُ أي كتاب سماوي سابق بدون الاستعانة بما ورد في القرآن من مواضيع ومفاهيم. فمثلاً، لا شك أن التوراة والإنجيل والفيدا والزند وأفستا كلها تتحدث عن توحيد البارئ تعالى، وصفاته وتجلياته، والوحي، والنبوة، والبعث بعد الموت وغيرها من الأمور الروحانية والأخلاقية، ولكن ليس بينها كتاب واحد يذكر هذه القضايا ببيان واضح، وإنما نضطر للاستعانة بالقرآن لحل ألغازها ومُعضلاتها.
خذوا مثلاً التوحيد -هذه القضية الكبرى في الروحانيات- فكلٌّ من هذه الكتب يتحدث عن التوحيد، ولكن بحديث مجمل موجز يكتنفه الغموض. واقرءوا ما كتبه أتباع هذه الكتب قبل نـزول القرآن من مقالات وشروح حول التوحيد، فستجدونها تحمل معلومات ناقصة للغاية، ولكن الأمر معاكس تماماً لما كتبوه بعد نـزول القرآن، مما يؤكد أنه بانتشار المعارف القرآنية انكشفت الحقيقية لهم، فشرحوا على ضوئها عقائدهم الدينية الغامضة من قبل.
وتليها أهميةً قضيةُ النبوة، التي نرى معالجتها في التوراة والإنجيل وغيرهما غامضة تماماً، ذلك لأن أهل هذه الكتب ما استطاعوا بعدُ أن يقفوا على حقيقة مفهوم كلمة "نبي" في أسفارهم المقدسة. أما القرآن فقد وضَّح هذا الموضوع وجلاّه، وهذه هي الحال نفسها بالنسبة للقضايا الهامة الأخرى.
فالآية تعلن أن هذا الكتاب يشرح ويوضح ما ورد في الكتب السابقة من مواضيع غامضة ومعانٍ مبهمة، فإذا رفضتموه فلن يكون لكم بد من الاعتراف بأن الله لم يستطع أن يبين في كتبكم الضخمة والعديدة أمورًا قد ذكرها هذا الشخص في كتاب موجز. فلا مفر لكم من أحد الأمرين: إما أن تصدّقوا القرآن، أو تكذّبوا كتبكم السابقة أيضًا.
والبرهان الرابع على صدق القرآن هو أنه [لا رَيْبَ فِيهِ] ولا مجال للشك فيه.. أي أن هذا الكتاب بنفسه يسوق الأدلة على صدقه ولا يحتاج إلى الآخرين لبيانه. فقد وضّح مطالبه ومفاهيمه بحيث إن الذي يتدبر فيه كما ينبغي يجد فيه البراهين والأدلة على حقّانيته. أما الشك الذي يتولد عند أحدٍ فليس سببه هذا الكتاب المصحوب بالأدلة على صدقه، وإنما منشأه غفلة القارئ وتهاونه في محاولة الفهم الصحيح .
وهذا الأمر أيضا يشكل دليلاً على كون هذا الكتاب من عند الله تبارك وتعالى، إذ ليس بوسع إنسان أن يُثبت الأمور الغيبية بشكل مقنع كامل، لأن العديد منها لا يُثبَت أبدًا بالأدلة العقلية وحدها، وإنما يتطلب الأمر دليلاً من المعاينة والخبرة الشخصية، والإنسان الضعيف لا يستطيع أن يهيئ الأسباب التي تساعد الناس على مشاهدة الأمور الغيبية واختبارها، وإنما الله وحده هو القادر على أن يهيئ لهم أدلة هي بمثابة الاطّلاع على الغيب. خذوا مثلا الوحي والإلهام. إنه أمر غيبي، ويستطيع الإنسان أن يسوق على وجود ظاهرة الوحي الإلهي أدلة عقلية، ولكن ليس بوسعه أن يفتح على أحد بابَ الوحي أو يَعِدَه بنزوله عليه. ولكن الكتاب الرباني قادر على كل ذلك، فبإمكانه أن يعلن أن الذين يصدّقونني سيفتح الله عليهم باب الوحي، كما أن تصديق إعلانه ممكن بفعل إلهي إذ ينزل الله بالفعل وحيه عليهم. فالكتاب الذي يعلن -كدليل على نـزول الوحي الإلهي حقًا- أن هذا ليس عجباً، بل إن وحي الله ينزل الآن وسوف يستمر في النزول مستقبلاً أيضًا، وأن مئات البشر سوف يسمعون كلام الله تعالى.. أقول: إذا أعلن كتاب ما ذلك فلا شك ولا شبهة في كونه وحياً إلهياً حقاً. إذ ليس بوسع الإنسان أن يأتي بمثل هذه البراهين المقنعة على وجود الوحي الإلهي، وأن يستأصل الشكوك بهذا الشكل.
والبرهان الخامس على صدق القرآن هو كونه [مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ].. بمعنى أن تعاليمه تُجلّي الصفةَ الإلهية (رب العالمين)، فشرائعه لا تخص قوما دون قوم أو زمنا دون زمن، كما كانت الكتب السابقة، وإنما هي ذات صبغة عالمية؛ إنها للأمم بأسرها، وللعصور كلها، وقد روعيَ فيها حاجات كل قوم وقضايا كل زمن.
وهذا الأمر أيضا ليس في مقدرة أي إنسان، إذ ليس بوسع أحد أن يراعي حاجات كل قوم ومتطلبات كل عصر. لأن الإنسان إنما يتأثر بما حوله فقط، ولا يراعي حتى من حاجات نفسه هو إلا ما كان ظاهرًا بادياً لعينيه. وإنما الله وحده القادر على إنـزال تعليمٍ نافع لكل شعب وصالح لكل عصر، لا يفقد صلاحيته بتغير الزمن، مراعياً كلّ ما في فطرة الإنسان من حاجات ومشاعر. والقرآن متّسم بهذه المزايا إذ يراعي تماماً الطبيعة البشرية بكل أنواعها. فإنه لا يأمر مثلاً نرحم دائماً دون انتقام أبدًا، أو أن ننتقم دوماً دون عفوٍ أبدًا، بل يعلّمنا أن نرحم في محل الرحمة، ونعاقب إذا كان العقاب ملائماً. وهذا هو شأنه في جميع تعاليمه، فميزتها أنها تراعي الطبائع البشرية جمعاء وتنظر إلى الظروف كافة، وتأخذ في الاعتبار العالم والجاهل معاً. وهذا برهان عظيم على أنه كلام من رب العالمين. فتبارك الله أحسن الخالقين.
... لقد وجّه القرآن هنا تحدياً لم يقدر المفسرون على استيعاب حقيقته بشكل كامل واضح، حتّى ألقى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام الضوءَ على هذا الأمر، حين صرّح أن تحدّي القرآن ليس قائماً على الإعجاز اللغوي فحسب، بل يتعداه إلى الإتيان بكلام متسم بجميع المحاسن القرآنية المعجزة بما فيها اللغة الإعجازية (البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية جـ1 ص270).
وقد ظن بعضهم أن هذا التحدي يعني أن كُل من ألّف كلاماً يبارز به القرآن فسوف يموت.
والواقع، كما أسلفتُ، أن المفسرين لم يدركوا حقيقة هذا التحدي على الوجه الأكمل. ولما كان هذا الموضوع مذكورًا في عدة أماكن من القرآن وبكلمات مختلفة فقد ظَنَّ بعضهم خطأً أن القرآن غير مستقر في التحدي، إذ ينقص من مطالبته هذه مع مرور الوقت. فمرةً طالبهم بأن يأتوا بكتاب مثل القرآن حجماً وضخامة، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله، وأخيرًا دعاهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط.
ولكني أرى أن هذا ليس بصحيح، وإنما الحقيقة أن القرآن قد ذكر في كلٍّ من هذه الأماكن المختلفة موضوعاً مختلفاً مستقلاً.
فمثلاً قال في هذه الآية: [فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ]، وليس المراد من (مِّثْلِهِ) كل القرآن، وإنما المراد منه مثل الآية السابقة الذكر، إذ ليست كلمة السورة هنا بمعناها العادي المشهور وإنما معناها هنا العلامة أي الدليل كما جاء هذا المعنى في شرح هذه الكلمة، والمراد: إذا كان ما ذكرناه في الآية السالفة من أدلة كلامَ بشر فأتوا بكلام من لدنكم يتضمن دليلاً واحدًا كالذي احتوته الآية، وليس خمسة أدلة.
هذا وإن كل عاقل يدرك جيدًا أنه يستحيل على بشر أن يأتي حتى ولو بدليل واحد كالذي ذُكر من قبل. ولذلك لم يقدر أحد على ردّ هذا التحدي القرآني ولن يقدر عليه إلى يوم القيامة. هذا ولا يزال التحدي قائما إلى اليوم. ولو أن أحدًا في هذا الزمن أتى بكلام يحمل ولو مَزِيَّةً واحدة من هذه المزايا الخمس لاعترفنا ببطلان التحدي القرآني. ولكن قد تزول السماوات والأرض، ولكن لا يمكن أن يقدر أحد على الإتيان بمثله أبدًا، لأن هذه المزايا إنما هي من خصوصية الكلام الإلهي فقط، ولا يستطيع البشر ذلك أبدًا.
أما إذا أخذنا كلمة (سورة) بمعناها المعروف فالمراد من الآية: فليأتونا بسورة من تأليف بشر تصل إلى مستوى كلامنا الذي ذكرناه آنفاً. ولكن هذا المعنى ليس بقوي كالمعنى الأول، لأن المراد في هذه الحالة هو: فليأتوا بسورة شاملة لكل هذه المزايا الخمس، بينما المعنى الأول هو: فليأتوا بكلام يشمل ولو واحدة من هذه المزايا.
أما الآيات الأخرى التي تذكر هذا التحدي بكلمات أخرى فسوف نتناولها بالشرح لدى تفسير سورة هود، إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: [وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ] زاد به التحدي قوة وشدة.. والمراد: لا تبذلوا أنتم وحدكم الجهود في مجاراة القرآن، بل ادْعُوا زعماءكم واستعينوا بآلهتكم، ثم انظروا كيف أنكم ستفشلون فشلاً ذريعاً، لينكشف للعالم كله أن الكتاب الذي عزوتموه إلى افتراءات محمد ﷺ لم تقدروا على تأليف كتاب مثله، لا أنتم ولا زعماؤكم ولا آلهتكم الباطلة جميعاً." (التفسير الكبير، سورة يونس)