إلى كل من يؤمن بالثورة على الحاكم، تلك الثورة التي تتساقط فيها الدماء، ويُحسب أن من مات في سبيلها من الشهداء، ويتفرق بعدها الشعب ويتفشى بين أطيافه العداء:
قد تقولون نحن مسلمون، وقد تحسبون أنفسكم حُماة الدين وحراس العقيدة، وقد تتوهمون بأنكم مادمتم ثوارا فإنكم أحرار، أصحاب كرامة وقرار ولا تقبلون الدنية.. إلى آخر كل هذه النعرات العنترية..
ولكن هل حقا أنتم مؤمنون؟! وهل تحقق لكم الثورات آمالكم وتُمتعكم بالكرامة؟!
تأملوا في حالكم قبل أن تجيبوا لعلكم تتوبون، وإلا كفاكم أن تقولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم!
فماذا صنعتم من يوم الجمعة، هذا اليوم الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشمس، والذي أمرتم فيه بقول الحق عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)؟!
ها أنتم قد جعلتموه يوم شر على بلادكم، وإذا قضيتم صلاتكم تنتشرون في الأرض لتضربوا رقاب بعضكم بعض، وبدلا من ذكر الله ورفع أكفكم إليه بالدعاء، فإنكم ترفعون عقيرتكم بالشتائم والهتافات في مظاهرات ومليونيات!
ماذا تفعلون وقت الفتنة؟ هذا الوقت الذي لا يُؤمَن فيه العواقب وتشتعل فيه الخلافات والذي أمركم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تُكسروا قِسِيَّكُمْ، وتُقطعوا أوتاركم، وتلزموا أجواف بيوتكم، وتكونوا كَالْخَيِّرِ مِنِ ابْنَيْ آدَمَ؟!
ها أنتم تُكسرون كلام النبي، فتخرجون من بيوتكم إلى الشوارع والميادين، وتجذبون أوتار قِسِيِّكُمْ لتنطلق منها السهام، ولا تكونوا كَالْخَيِّرِ مِنِ ابْنَيْ آدَمَ، وإنما كالذي بسط يده إليه ليقتله!
وماذا فعلتم بقول الله عز وجل: (هو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)؟!
أخفِضوا رؤوسكم إلى الأرض لتروا دماءكم المسفوكة عليها، وانظروا حولكم لتجدوا ما أحدثتموه فيها من خراب ودمار من جراء ثوراتكم المزعومة، لتعرفوا بأنكم لا تستحقون الاستخلاف في الأرض!
وانظروا إلى كبرائكم وهم يثورون حرصا على الإمارة التي نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن طلبها، وقال أنها ندامة يوم القيامة، فإذا بهم يتكالبون ويتناحرون من أجل الوصول إليها، ولا مانع عندهم من التحايل أو التخطيط لاغتيال خصومهم من أجل السيطرة عليها!
وانظروا إليهم وهم يستعينون بالثورة فيحشدونكم للتظاهر وإعلان الغضب، وقارنوا بينهم وبين حال موسى مع بني إسرائيل الذين استعانوا بالله على فرعون، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شِيَعًا، واستضعف طائفة منهم، وذبح أبناءهم واستحيى نساءهم، وكان من المفسدين.. فلم ينصحهم موسي بالثورة على فرعون، وإنما قال لهم كما ورد في الذكر الحكيم (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)! ولما اشتكوا من طول مكث قهر فرعون وتعذيبه قائلين (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)- أصر موسي على أن يلزموا الصبر ورغّبهم فيه فقال (عَسَىٰ رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)!
وها هم سحرة فرعون، الذين كانوا في البدء من أنصاره، ولما تبين لهم ظلمه بعدما جاءهم من البينات، لم يُشجعوه على بغيه ويصروا على تأييده كما يفعل الموالون للحكام بعدما يتبين استبدادهم، وإنما قالوا له حين توعدهم (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى)!
وهكذا، لثقتهم بالله واعتزازهم به، قالوا لفرعون افعل ما شئت! كما قالوا في وجهه- وهو السلطان الجائر- كلمة حق لا تخلو من اللين، فيها من الترهيب من عاقبة المجرمين، ومن الترغيب في ثواب الآخرة!
وها هي نهاية كل فرعون، وبشارة كل المستضعفين، تلخصها لنا رائعة من روائع آي الذكر الحكيم، إذ يقول الله في محكم التنزيل: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)!
فهكذا انتقم الله من فرعون وقومه الذين استكبروا، ومَنَّ على بني إسرائيل بالاستخلاف في الأرض جزاءً بما صبروا وعملوا الصالحات، وليس جزاءً بما ثاروا وعملوا المظاهرات! وصدق الله العظيم إذ يقول: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)! فهل حقا أنتم مؤمنون؟!
لقد تركتم كلام الله ورسوله، فمنكم مَن انجرف وراء الأفكار التي ليست من الإسلام في شيء، ومنكم من اتبع علماء السوء الذين يسترخصون الدم، ويتعَبّدون بالبغض، ويتلونون على كل لون.. فقبل اندلاع ثورات ما يسمى بالربيع العربي كانوا يعترفون بعدم جواز الخروج على الحاكم حتى لو كان مستبدا، أما بعد اندلاعها وبعد أن بانت بشائر سقوط بعض الحكام- تخلوا عن المبادئ وأفتوا بالجهاد المزعوم ضد الحاكم، وذلك رغبة منهم في الانقضاض على الحكم، فجرّوا الويل على البلاد، ولم يُطعَم العباد من جوع، ولم يأمنوا من خوف!
وما مثل سوريا عنكم ببعيد، هذا البلد الذي كان آمنا، فخرج هؤلاء العلماء على الناس لتثويرهم على حاكمها، ليدخل في زمرة دول ما يسمى بالربيع العربي، فابتلي أهله بالشتات، وتناثرت الجثث كالذبائح، وحلّ به ما حلّ من خراب! ومن قبل سوريا كان العراق، الذي يشتعل بالفتن حتى الآن منذ أكثر من عشرة أعوام، وذلك بعد أن أفتوا بالاستعانة على حاكمها بالأمريكان، في الوقت الذي يتشدقون فيه بحرمة موالاة الكافرين!
وتفكّروا أنتم في المزيد من البلاد المنكوبة من جراء تلك الثورات المزعومة، التي زاد علماء السوء في إشعالها بدلا من إخمادها، بهدف اعتلاء الحكم وفقا لأفكارهم المسمومة!
حقا، إنهم من هؤلاء الذين حذر منهم رسول الله عليه الصلاة والسلام في نبوءاته بقوله: ويل لأمتي من علماء السوء، ووصفهم بأنهم شر من تحت أديم السماء من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود!
فهل حققت لكم الثورات مرادكم؟! أم أنكم تحفظون ماء وجوهكم لأنها فشلت في تحقيق رغباتكم، فتقولون إنها لم تكتمل ولا زالت مستمرة؟!
فكفوا عن عنادكم الأحمق، فالحق أن تلك الثورات ليست من الإسلام في شيء، ومَن ابتغى العزة بغير الله أذله الله..
فها هم قوم ثاروا على حاكمهم فابتلاهم الله بأسوأ منه! ومن ابتلاهم به داهنهم في البدء وابتغى العزة بهم، ولم يتورع في غمرة نشوته بالوصول إلى الحكم عن تمجيدهم فقال لهم: (من يحتمي بغيركم يخسر، ومن يسير مع إرادتكم ينجح.. أنتم أصحاب الإرادة ومصدر السلطة، تمنحوها لمن تشاءوا وتنزعوها عمن تشاءوا..)، ولكن بعدما تبين عدم صلاحيته للحكم، وبعدما احتمى بالثوار وسار مع إرادتهم عزلوه! فطار صوابه، كما فقد أنصاره صوابهم، ولم يحصدوا بعد عام واحد من حكمه إلا خزيا! ذلك لأنهم قد باعوا الدين ليشتروا به ثمنا قليلا، فابتغوا العزة بغير الله ووضعوا الثوار في مقامه، ونسوا حظا مما ذُكروا به فاستعانوا بالثورة لنيل السلطة، فلما فرحوا بها أخذهم الله بغتة ولم تزدهم الثورة إلا ذلا.. وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَأَن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)!
فما بال أقوام لا يتفكرون، وإذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ!
فاستقيموا يرحمكم الله.. كُفّوا عن خداع أنفسكم بأن الثورات هى السبيل إلى الكرامة، واستقيموا على طريق الإسلام فاستلهِموا الإصلاح من كتاب الله وهَدي الرسول، وليس من علماء السوء أو من فرنسا وجيفارا..
لا تنخدعوا بالتصفيق لثوراتكم، فعن أي ربيع عربي تتحدثون، وأي نسائم تتنسمون بعد أن تركتم هدى القرآن وهدي الرسول وقمتم بالثورة على حكامكم وكتاب الله يخبركم بأن ثورةً على فرعون لم تقم!
هذا ولم تنتهوا عما نهاكم الرسول ولم تأخذوا بما أمركم، فلقد نهاكم عن ألا تعودوا بعده كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولكنكم عدتم!
ولقد أمركم بأن تكونوا كَالْخَيِّرِ مِنِ ابْنَيْ آدَمَ، ولكنكم كأخيه!
فتوبوا يا عرب، كفاكم غباءً وعنترية جوفاء، وكونوا كَالْخَيِّرِ مِنِ ابْنَيْ آدَمَ وارفعوا الرايات البيضاء حقنا لما تبقى عندكم من دماء..
توبوا من ثوراتكم عسى الله أن يبدلها خيرات، وليكن أول التائبين منكم من اعتلوا الحكم بتلك الثورات..
واتقوا فتنة لا تُصِيبَنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واستعينوا بالله بالابتهال إليه، ولا تُبخسوا سلاح الدعاء قيمته، فلو أقبلتم حقا على الله لأعزّكم، ولو دعوتموه دعاء المضطر في يوم الجمعة لكان خيرا لكم من مظاهراتكم..
وبدلا من تضييع أوقاتكم في وقفات، ومن التفرّغ للصراعات والنزاعات، سيروا في الأرض وانشغلوا بعمارتها، لعلكم تعودون كما كنتم في الأندلس..
وأصلحوا أنفسكم فكما تكونون يُولى عليكم، فارتقوا بأخلاقكم، واتقوا الله ليجعل لكم مخرجا ولا يُسلط عليكم من لا يخافه ولا يرحمكم..
ثم انصحوا حكامكم وقولوا لهم قولا لينا، ولا تخشوا في قول الحق لومة لائم، وعبروا عن آرائكم في سياساتهم بما لا يُحدث الفتن والقلاقل..
وهكذا قوموا أولاً بما عليكم، وإن لم تجدوا في حكامكم خيرا فاغسلوا أيديكم منهم، واستعينوا بالله واصبروا، عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض..
توبوا يا عرب، وإلا ويل لكم من شر قد اقترب، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ، وعودوا إلى الإسلام الأصيل الذي جاء به خاتم النبيين، والذي عاد به خادمه الأمين حضرة ميرزا غلام أحمد عليه السلام في الزمن الأخير، وتدبروا ما ورد في الذكر الحكيم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، فعلى مدى أكثر من مئة عام كم تكاثرت وتكسرت عليكم من عصي جزاء تكذيبكم لهذا المبعوث الإلهي، فاكتفوا بما أصابكم وما جَنيتم من خسارة، فالعبد يُقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة..
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.