إنه من المنطقي لتتّبعِ موضوع (الجن) في القرآن الكريم ان نفتحَ المصحف الشريف, ونبدأ القراءة من بدايته.. ونتأمل كيف يتناول المسألتين: عبادة الله تعالى, وذِكرَ الجن والإنس. ومن المناسب هنا التأكيد على حقيقة جديرة بكل اهتام.. تلك هي أن القرآن المجيد تنزيلٌ من الحكيم العليم.. فهو ليس نتفًا من الآيات من هنا وهناك, لا يربطها رباط, ولا يضمها نسيج متين.. مثل خواطر بعض البشر التي تقفز في عقولهم بلا ترتيب أو تبويب. حاشا لله! إنه كتاب محكم, ذو عناصر مترابطة مرتبة, فما جاء منها أوّلاً فلحكمةٍ جاء أولاً.. وما جاء متأخرًا فلحِكمةٍ ورد هكذا.
تأتي في مقدمة القرآن سورة (الفاتحة).. التي تفتح باب الكتاب الرباني.. باسم الله الرحمن, وتكشف لنا عن الغرض من تنزيله على بني البشر.. وتعلن عن مصدره الإلهي, وإطاره القائم على كمال الرحمة الربانية.. ثم تهتف: "الحمد لله رب العالمين".
والحمدُ لفظ عربي قليلُ الأحرف إلا أنه يجمع كل معاني الكمال والجلال! فكل ما يستوجب المحبة والإعجاب.. والتوقير والتعظيم.. والشكر والثناء بأكمل صورة وأصدق معنى.. هو لله تعالى. هذه هي المقدّمة الذي توَلّى الكتاب توضيحَها والتدليل عليها, ورسَم المنهج السليم لتحققها من خلال سوره وآياته. إنها الغرض الوحيد الذي من أجله خُلق البشر. وما تنزَّل وحيُ السماء.. وما يتنزل.. إلا لتحقيق هذا الهدف الأسمى. ثم تعلن الآية الكريمة أن الوجودَ المستحق للحمد كلِّه هو الله رب العالمين.. كل العالمين, لا لصنف دون صنف. إن ربوبيته رعايةٌ وعناية, هيمنة وقوامة, رزق وتنشئة وحفاظة.. تظلل العوالم كلَّها: عالم الشاهد وعالم الغائب, عالم النبات وعالم الجماد, عالم الطير وعالم الدواب, عالم الرجال وعالم النساء, عالم الروح وعالم المادة, عالم الإنس وعالم الجن. كل ما في الكون من عوالم.. نعرف عنها شيئًا او نجهلها بالمرة.. تدخل جميعُها تحت مظلة ربوبية الله تعالى. وتمضي آيات القرآن. وفي السورة التالية – سورة (البقرة) نسمع أوّل نداء قرآني.. موجه إلى من يخاطبهم القرآن.. إلى من نزل لأجلهم.. الى من خُلِقوا لعبادة الله.. يقول النداء:
النداء للناس. والنداء توجيهٌ الى عبادة الرب الخالق الذي خلق الناس لهذه العبادة. ولو كان القرآن يخاطِب خَلقًا غير الناس لكان من المناسب أن يوجِّه اليهم الخطاب ها هنا.. لأنه أول أمر عامٍّ بالعبادة. يترتب على ذلك أن المنادَى في هذه الآية – وهُمُ الناس – يشمل كل مكلف بعبادة الله عن طريق هذا القرآن. وعلى لسان نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم.
ثم تمضي سورة (البقرة), أطولُ سور القرآن, حافلة بآيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته الحقة, وتضع التشريعات المنظمة لحياة من يناديهم القرآن, وترسم الآداب الطاهرة التي تزكى العباد, وتبين الحكمة الإلهية السامية وراء تلك التوجيهات الربانية.
وتأتي من بعد سورة (البقرة) سور طوال: آل عمران, والمائدة, والنساء, إلى أن نصل إلى سورة الأنعام.. ونكون بذلك قد قرأنا ما يقرب من ربع المصحف الشريف.. فلا نجده يخاطب أحدًا من المكلَّفين بالعبادة واتباع المنهج القرآني أو يشير اليهم إلا بمثل قوله تعالى:
ويتحدث القرآن الكريم في سورة (آل عمران) عن صنفين من عباد الله: هما الذكر والانثى, وكلاهما من البشر.. فيقول:
وبذلك يقرر أن الفروق العضوية أو الاجتماعية بين الصنفين لا تفرِّق بينهما في العبادة وتكاليفها وثمراتها من ثواب وعقاب.. فكلٌّ منها على قدر مسئوليته وبقدر جهده واجتهاده ينالُ نصيبه. وينتفي بعد قوله تعالى: " بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ " الزعمُ أو الظنُ بأن الرجال قد فازوا بالنصيب الأوفى من التكاليف والجزاء, أو أن النساء حُرمن الا من القليل. لا, إن السورة تقرر أنهم جميعا في هذا الأمر سواء. الجميعُ مسئولون عن الإرتقاء والتقدُّم إلى الله عز وجل, ومدعوون للتّخلق بأخلاقه والاتّصاف بصفاته. والجميع محققون الهدف من خلقهم بقدر عملهم وتضحياتهم وثباتهم.
سورة الأنعام :
في سورة (الأنعام), بعد ربع القرآن, وبعد مئات من الآيات التشريعية والتعليمية والتربوية.. تأتي الإشارة في القرآن الى نوع من المعبودات التي يؤلهها المشركون وينسبونها الى الله ظلما وجهلا فيقول:
والشرك بالله تعالى جريمة نكراء, وسقطة شنعاء, يرتكبُها ويقع فيها الجاهلون بحق الله تبارك وتعالى, إذ يتخذون لأنفسهم أربابا يحمدونهم من دون الله, ويصفونهم بأوصاف الله.. وينسبون اليهم ما يُنسب إلى العلي القدير, ويعاملونهم بما هو حق له وحده.. فيخصونهم بالطاعة والخضوع المطلق. ولقد تناولت الآيات السابقة على هذه الآية بيانَ بعض نعم الله على الناس من أرض وسماء؛ ونَعَتْ على الظالمين منهم أنهم ينسبون لله شريكا يزعمون أنه ابن له!! والإشراك بالله تعالى ظلم عظيم لا يغفره الله الغفورالرحيم لمن أصر عليه وهلك دون توبة عنه. ذلك لأنها سفاهة تامة.. يُبطلُ بها المشركُ عقله.. والعقلُ أجلُّ النعم التي وهبها الله الخالق الوهاب للإنسان, ليكون الأداة الفعالة لقيادة الإنسان إلى تحقيق الهدف من خلقه. فإذا هو حَرَم نفسه منها وعطلها.. لزِم أن ينال العقاب التربوي المناسب حتى يسترد هذا العقل.. ويعرفَ لربه حقَّه.. ويدرك جماله وجلاله, ويعلم يقينا أنه:
وإذن فالشريك المزعوم, والولد المدَّعَى.. ليس إلا وهما باطلا.. لا وجود له إلا في خيال هؤلاء المشركين. وما هو إلا خيال كاذب من قُبيل تلك الأشباح التي توهمها البدائيون في عصور الجاهلية, وزعموا أنها تسكن الجبال والقفار. والواقع أن أحدا منهم لم يرها إلا بخياله المرعوب وبعينه الكليلة المذعورة. ولذلك أطلق القرآن الحكيم وصف (الجن) على تلكم الآلهة المتوهمة.. لأن لفظ (الجن) يعبر أدق تعبير عن حقيقة وماهية تلك الآلهة. فكما أطلق البدائيون على الكائنات الخيالية التي لا حقيقة لها اسم (الجن), وخافوها وزعموا ان لها من القدرات والسلطان ما تستحق به الطاعة.. كذلك سمّى القرآن باسم الجن هذا الإبن المزعوم – أيا كان – الذي خلعوا عليه صفات وقدرات لا تنبغي إلا لله تعالى, ولا وجود له إلا في عقيدة هؤلاء الضالين.
إن مادة (ج ن ن) في اللغة العربية تتضمن معنى الستر والاستتار. تقول المعاجم اللغوية:
جنَّ الشيءَ يجُنُّه جَنًّا: ستره, وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك.
جنَّ الليلُ: أظلم فستر المرئيات. جنَّه الليل جنًّا وجنونا. وجَنَّ عليه يجُنُّ وأجنَنَّه: ستره. جنَّ الجنين في الرحمِ, استتر. جِنُّ الليلِ وجُنونه وجنانه: شدة ظلمته, وقيل اختلاط ظلامه لأن كل ذلك ساتر. والجَنَن: القبر والكفن لأنه يستر جثة الميِّت. والجَنان: القلب لاستتاره في الصدر, أو الروح لأنها مستورة في الجسم. والمجن: الترس والوشاح والحياء.. لأنها تستر من يستخدمها. والجُنَّة: ما واراك من السلاح؛ السترة والوقاية. وجِنُّ الناس معظمهم.. لأن الداخل فيهم يستتر بهم. وجَنان الناس جماعتهم وسوادهم, وقيل دهماؤهم. وقيل – الجِن: ولد الجان.. وهم الجِنة. والجن خلاف الإنس. والجِنَّة الجنون, وطائف الجِن. والجِنَّة: طائفة من الجن. والجَان هو الجن أو أبو الجن, اسم جمع. والجن هم الملائكة.. قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام: وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكَةِ تِسْعَةً قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْر. وقوله جن الملائكة أي الملائكة الجن يعني المستترة.
فكل ما استَتَر أو خَفِي أو نأى فهو جِنّ.. وأيضا كل ما أخْفَى أو سَبَرَ أو غطَّى أو غَلَبَ على غيره فهو جن. فمثلا: جِنُّ الشباب أوَّله, وجدَّته ونشاطه.. لأنها الصفات الغالبة عليه. وجِنُّ كل شيء أول شداته. وجِنُّ المرح كذلك. يقال: خذ الأمر بجنِّه أي حدثانه. وجِنّّ النبت: زهره ونوْره.. لأنه يجذب الأنظار اليه فيكون المظهر الغالب على النبات , فكأنه يستره. وجُنَّ النبتُ جنونا غُلظ واكتهل. وجُنَّت الأرض جاءت بشيء معجب, وإذا أعتم نبتها. وجُنَّ الذباب: كثر صوته وترنمه.
وجنون النبت طوله والتفافه, وجنون السنام تموكه وطوله. والجَنَّة الحديقة ذات الشجر والبستان.. لأن أشجارها تستر الأرض. والجان الحية.. لسرعة اختفائها أو لاستتارها عادة. فالتميز والشدة والعنفوان جنون. ولقد أطلق الناس في زمن الجهالة الأولى اسم (الجن) على كائنات وهمية زعموا أنها موجودةٌ في الأماكن النائية عن العمران, وحسبوا أن ما تحدثه الرياح من زمجرة وعويل هو من أصواتها, وتوهّموا أن ما يتراءى لعيونهم المجهدة الخائفة هو من أشباحها. ولقد علمنا أن اللغة العربية تستخدم مادة (ج ن ن) للتعبير عن كل ما من شأنه أن يستُر أو يستتر أو يجذب الأنظار (أو بلغة السينما: يسرق الكاميرا). وهكذا حُق للقرآن أن يطلق وصف الجن على تلكم الآلهة: لأنها وهم خيالي خفي عن عيون المشركين بل وعن الوجود كلية, ذلك دلالة على مدى ما في الإشراك بالله من زيغ وضلال وبطلان. لقد أطلق البدائيون اسم الجن على خيالات زعموا وجودها بغير علم ولا سلطان ولا تحقق, وهكذا فعل الجاهليون إذ زعموا ان في السماء أو في الأرض أبناء وبنات نسبوها إلى الخالق عز وجل.. نسبوها اليه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!! فهي كائنات جديرة بوصف (الجن) حقا وصدقا. إن الآية القرآنية تعني بقول " شُرَكَآءَ الجِنَّ ".. أنهم شركاء من صنع الجهل ونسج الخيال وتجسيد الأوهام.
وتعالى الله أن يكون له من تلك الأباطيل المنتحلة شريك, فإن مظاهر قدرته وعظمته, ودلائل جلاله وكماله تملأ الكون كله. تعلن أن السبوحُ القدوس.. المنزهُ عن أي نقص. المتَّصف بكل حسن. إنه تبارك وتعالى غيبٌ لا تدركه الأبصار, ولكنه مشهودٌ للعقل.. منظورٌ بالبصيرة.. يُرى في آياته, ويُسمع في مخلوقاته. أما تلك الشركاء المزعومة فما أعجزها وما أقبحها!! أُلوهيّتها لا يقبلها عقل سليم, ولا يشهد لها الواقع. إن الله هو الإله الحق.. ومع أنه حقا كما قال:
فقد تحدث الى خلقه, وبيّن لهم طريق الهداية والرقي, بما يشهد له أنه: الحي القيوم.. الخالق القادر.. اللطيف الخبير. وشتان ما بين الغيب والوهم. فالغيب موجود فعلاً وإن خفي عن الحواس الجسدية, لأنه إنما يدرك بالملكات المناسبة المؤهلة لإدراكه.. الملكات الروحية من فكر وقلب. أما الوهم فهو عدم.. يخترعه الخيال السقيم في غيبة العقل السليم.
وتمضي آيات سورة (الأنعام) تلوم أولئك الذين ينصرفون عن آيات الله, وينساقون الى الشرك.. فيعبدون آلهة ليس لها حضورٌ في عالم الواقع, وما هي إلاّ خيالات في أذهانهم المشوّشة, يصرون عليها ويضلل بعضهم بعضا بقول مزخرفٍ ولكن زورٌ وباطل, يقاومون به دعوات الإصلاح والهداية التي يأتي بها أنبياء الرحمن. تقول الآية:
وكلمة (شياطين) جمع شيطان من مادة (ش ط ن), وتعني البُعد, يقال شطنت الدار: بعدت, وشطن عنه: خالفه عن قصده ووجهته. فالمؤثِّر الذي يُبعد الإنسان عن الحق والخير, وينأى به عن الهدى والصواب يُسمّى شيطانا. والذي يسعى ليُغيِّر وجهة المرء من طريق صالحٍ الى طريق فاسد أو أقل صلاحا هو شيطان. ومثلُ هذا المؤثر المضلل قد يأتي الانسان من الخارج أو ينبعُ من داخله. فشيطان الخارج قد يتمثَّل في دعوة من شخص فاسد, أو إغواء من فاسق, أو تزيين من ماكر. وقد يكون شيطان الباطن كامنا في شهوة أو عاطفة أو غريزة أو رغبة أو عقيدة أو ظنٍّ أو حاسةً أو فكرة أو خاطر أو نحو ذلك. وإذا كان المؤثِّر المحرِّض بشرًا سُمي (شيطان الانس), واذا كان المؤثر خفيًّا في داخل الإنسان سُمي (شيطان الجن). والشيطان الذي يقف في طريق دعوة الأنبياء إما ان يكون شخصية كبيرة.. أو بتعبير العصر: شخصية قيادية.. فإنه يُدعى في التعبير القرآني (شيطان الجن).. ذلك لأن هؤلاء الكبراء يتَّصفون عادة بالكِبْر الذي يجعلهم بمنأى عن عامة الناس. أو يكون مناهضو الأنبياء من عامة الناس.. أو الجمهور بتعبير اليوم.. فيُسمّى (شيطان الإنس).
فلفظ (شيطان) اسمٌ وصفيْ.. وليس عَلَمًا على أحد بعينه. قد يكون الشيء شيطانًا في موقف, ولا يكون شيطانا في موقف غيره. فشعور الجوع مثلا يدفع المرء الى طلب الطعام.. وهذا عملٌ مشروع, فإذا دفع الإنسان الى تناول طعام مُحَرّم أو ضارٍّ بصحته كان الجوع أو طلب الطعام في هذه الحالة شيطانا. وكذلك التفكير في شئون الحياة وأمور العمل واجبٌ على كل انسان, ولكن إذا شغله ذلك عن الانتباه في صلاته مثلا كان شيطانا. وكأن الآية الكريمة تبين أن المشركين إذ يتبعون سدنة الأصنام وكهنة المعابد.. ويعبدون تلك الآلهة الباطلة, يكونون قد انشغلوا عن دعوة الحق التي أتاهم بها نبيهم من عند الله تعالى, وهم بتصرفهم هذا المتسم بالحمق يبتعدون عن الصراط السوي. وجدير بهم أن يُسَمَّوْا (شياطين الإنس).. فكلهم مشارك في الفساد, يُغري بعضهم بعضا بباطل من الأماني التي لن تجديهم نفعا, والله تعالى قادر على أن يزيحهم من طريق الدعوة, ولكن اقتضت مشيئته أن يكون للبشر حريةٌ وإرادة.. يختار بها العبادة عن رضًى واقتناع, وأن يعصي أو يكفر برغبته. والجزاء يأتي بعد فرصة الاختيار والتفكير والتجربة. ويكون الارتقاء والنعيم لمن أحسن الإختيار, والحسرة والعذاب الأليم لمن عطّل ملكاته وعقله فأساء الاختيار.
أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الشياطين جميعا فيتلخص في امر الله تعالى " ذَرْهُمْ " أي دعهم ولا شأن لك بهم بعد التبليغ. وإذا كانت مشيئة الله أن يتركهم أحرارا يختارون الإيمان أو الكفر فليس للنبي أو غيره أن يتجاوز حد التبليغ. لقد حكى القرآن عن كثير مما جرى بين الأنبياء.. ومنهم المصطفى صلوات الله عليهم جميعا.. وبين أقوامهم, وأوضح أن المعارضة لمنهج الله والمقاومة لدعوة الأنبياء كانت في كل مرة تأتي أول ما تأتي من جانب " الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ". هؤلاء غالبا ما يجدون في أنفسهم من جموح الغرور ما يدعوهم للاستكبار والإباء والنفور من قبول النصح. إنهم أصحاب السلطة والجاه والمال.. وهم المنتفعون قبل غيرهم من غلبة الجهل وانتشار الفساد.. حيث ينعمون معًا بعائدات المنصب ومكاسب الجاه. وهم القادرون – بسبب مراكزهم القيادية وسلطانهم الديني – على ان يزخرفوا القول لضعاف النفوس وقليلي العلم من أتباعهم.. ليسيروا خلفهم في معارضة الدعوات الاصلاحية؛ ويبذلون في سبيل ذلك كل ما في وسعهم من قوىً مادية, وما تفرزه نفوسهم الجشعة من أباطيل وافتراءات.
التاريخ لا ينسى كهنة اليهود الذين كذَّبوا عيسى عليه السلام, ورموه وأمه الصديقة بكل فرية وإفك. ولا ينسى زعماء قريش من أمثال أبي لهب وأُبَيّ بن خلف.. الذين اتهموا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بالكذب والجنون والسحر. وفي المدينة وقف صاحب الملك الضائع والزعامة المفقودة.. شيخ المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وراء المؤامرات والفتنة, يحرض العامة على محاربة النبي وافتراء الكذب عليه, والتطاول على شرفه الرفيع بالزور والبهتان.
الآية القرآنية تتناول هذا النوع من البشر.. ووصنفتهم بأنهم شياطين, وصنّفتهم صنفين: دعاة الفساد وزعماء الفتنة وهم (شياطين الجن), وجهلة العامة مما يمشون مغمضين خلف كلِّ زاعق وناعق.. وهم (شياطين الإنس). هذه عادة البشر في القديم والحديث.. كل دعوة صالحة يقف لها شياطين الجن والإنس بالمرصاد.. والله من ورائهم محيط يحصي عليهم أفعالهم.. ويفسد عليهم مكرهم. ويلاحظ في الآيتين السابقتين ان القرآن الكريم استعمل كلمة (جن) في معنيين مختلفين.. ولكنهما يحملان ظلالا لما تدل عليه مادة (ج ن ن) من الخفاء أو الإخفاء.. كما هو وارد في قواميس اللغة.
والقرآن الكريم نزل على العرب بلغتهم, بيد أنه يتميز باسلوب خاص, يجعل له مبنًى وجرسًا فريدا.. أكسبه تلك الخصائص البلاغية التي عرَفها له العرب, وسلموا له بأنه القمَّة في البلاغة وجمال الصياغة. ومن سمات الأسلوب القرآني أنه يستعمل ألفاظًا عربية ذات دلالات معينة, فيسبغ عليها استعمالات حديثة اصطلاحية.. ويكسبها معانٍ قرآنيةً إسلامية خاصة.. ومع ذلك يبقى لها بعض دلالاتها الأصلية وتعكس ظلالها. ولنتأمل مثلا كلمة (الصلاة), فهي كلمة عربية تعني التوجه بالدعاء والمناجاة الى الإله المعبود. ولقد استعملها القرآن المجيد بهذا المعنى أحيانا كما في قوله تعالى:
وسورة الأعلى من أول ما نزل من القرآن, وكلمة (صلّى) تعني هنا: دعا ربّه وتوجه اليه كلما تذكّر صفات الله تعالى. واستخدمها القرآن بمعنى الدعاء كما في قوله تعالى: (التوبة: 103)
ولمّا شرع الله فريضًة تعبدية تشتمل على ركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتكبير.. سُمِّيت في القرآن باسم (الصلاة). يقول القرآن:
فالصلاة هنا هي الصلاة الاصطلاحية بشروطها ومواقيتها المحددة. ولما كانت نظرةُ الرضا من الله العلي الكبير ترفع منزلةَ العبد وتُقرّبُه من رحمة الله وإحساناته, فكانت بذلك بمثابة الصلاة المقبولة من العبد الصالح.. أطلق القرآن عليها اسم (الصلاة) في قوله تعالى:
والملائكة تحمل البشرى للمؤمنين فتُطمئن قلوبَهم, وتشرح صدورهم, وتبشرهم بقربهم من الله تعالى.. لذا ذكرت الآية السابقة فعل الملائكة هذا باسم (الصلاة), عطفًا على ما قبلها. ولا يليق بعاقل ان يتصوّر صلاة الله تعالى على أنها دعاء للمؤمنين, او أن صلاة الملائكة ركوع وسجود كما يفعل البشر. ولو دار بذهن أحد شيء من ذلك لوقع أمور لا تجوز في حق الله تعالى, ولا تصح بالنسبة للملائكة, ولأفسد على نفسه فهْمَ معنى الآية القرآنية, وضَيَّع فرصة الإنتفاع بها.
وهناك الكثير من الكلمات العربية التي استعملها القرآن لدلالات خاصة, ولم يُرِد تماما المعنى الأصلي الذي استعمله العرب الجاهليون؛ ولكن ظلال المعاني لا تزال تشع في استعمال القرآن المجيد. من هذه الكلمات: الساعة, القيامة, البعث, الأُولى, الآخرة, الحياة, الموت, الزكاة, الهجرة, المعصية, الشهادة, الصدقة.. وغيرها كثير. ولفظ (الجن) من الكلمات التي وردت في القرآن الكريم مرات عديدة لتؤدي من المعاني ما يحمل ظلالا من مادة الكلمة, ولكنها لا تتفق مع المفهوم الخرافي الذي شاع بين المتخلفين من أهل البادية ومن أخذ عنهم.
ولقد رأينا من الآيات السابقة في سورة الأنعام أن كلمة (الجن) تعني الآلهة الخيالية المزعومة والمتوَهمة, وتعني أيضا فريقا من البشر المتميز بموقعه الخاص بين قومه. ونوالي النظر في الآيات القرآنية لنتعرف على استعمالات الكلمة في المواقف والمناسبات المخلفة ..
تستمر سورة "الأنعام" في سرد أحداث يوم الحساب, وتُوجِّه الخطاب إلى المكلفين من الإنس والجن.. أي من عامة الناس ومن خاصتهم.. من الرعية ومن الرعاة.. من الأتباع ومن القادة, فتقول:
أما وقد وقف شياطين الجن والإنس يعارضون دعوة الحق ويصدون عن سبيل الله, وجاء يوم الحساب, يوم يجمعهم مالك يوم الدين ويكشف لهم عن أعمالهم.. فيقول لأصحاب القيادة في الفساد وأهل الرئاسة في الباطل: يا جماعة الرؤساء, إنكم اتخذتم كثيرا من العامة أتباعا لكم.. توجهونهم وجهة الشر الذي تريدون, ومحاربة الخير الذي ترفضون. كما أنكم سخَّرتم كثيرا من رعاياكم, تصعَدون على أكتافهم, وتعلِّلونهم بالأماني والأكاذيب, وتنهبون أرزاقهم بسلطانكم الجائر, فضللتموهم بطغيانكم, وزادوكم فسادا باستسلامهم لكم.
كما أنكم جعلتم لهوَى الجماهير الساذجة قيمةً كبرى, فتغرونهم بفعل ما يرضيهم, وتستجدون أصواتهم الانتخابية وتأييدهم السياسي بتملق مشاعرهم, وأغفلتم في سبيل ذلك أمانة الله التي في أعناقكم, ولم ترشدوهم ولم تنصحوا لهم, ولم تؤدوا إليهم حقوقهم التي لهم عليكم. وحين ينكشف النقاب عما كان يدور بين الكبراء والأتباع.. يبادر هؤلاء إلى الاعتراف بأنهم قد اشتغلوا فعلا بتحصيل الفئات الذي كان يُلقِي به سادتهم إليهم, وأنهم استمتعوا بزائل من المال والجاه, وأنهم سرعان ما انقضى أجلُهم, ولم ينتبهوا إلا بعد فوات الأوان. كما أن السادة قد استمتعوا بدورهم, فكان لهم السلطان والجاه والعز والثراء. ومثل هذا العذر القبيح غيرُ مقبول عند الحكيم العليم, لأنه تبارك وتعالى زوّد كل امرىء بنعمة العقل التي يميز بها بين الخير والشر.
ومنحه حرية الاختيار والإرادة ليتجه حيث شاء. إن الجزاء العادل المناسب لكل من السادة الضالين, والتابعين لهم على طريق الضلال من منافقيهم وأذنابهم.. هو ألم الحسرة وعذاب السعير.
إن الله الحكيم قد جعل لبني الانسان الحواس والملكات والإدراك, ورسم لهم منهاجا سماويا لو أنهم اتبعوه.. حكاما ومحكومين.. لحققوا الغرض من خَلْقِهم.. ولجعلوا الأرض جنة تتجاوب في أرجائها أصداء تسبيحهم لربهم. والله العليم محيط بكل ما ارتكبوه من فساد, عليم بنصيب كل منهم ودوْرِه ومسئوليته, ولذلك فالجزاء عادل.. لأنه نابع من علمه وحكمته عز وجل.
ولقد جرت سُنة الله تعالى أن يكون الجزاء من جنس العمل. ومن يضع الأمر في غير موضعه الصحيح هو ظالم لنفسه ولغيره. كما كل امرىء عليه واجبه ومسئوليته قِبَل نفسه وقِبَل غيره, وإذا تهرب منها واشتغل بغيرها اختل نظامه, وهدد نظام غيره بالخلل. وهكذا إذا ظلمت الرعية بانحرافها عن المنهج الإلهي تسلط عليهم حكام على شاكلتهم. وإذا فسد الحكام وسكتت الرعية عن النصح لهم ونافقوهم.. حقَّ القولُ عليهم جميعا ودُمروا تدميرا.. مصداقا لسنة الله تعالى:
وبعد نعمة العقل والحواس والملكات.. أعذر الله الخلق المكلف بالخلافة والعبادة.. إذ أرسل اليهم جميعا.. في كل الأزمنة والأمكنة.. رسُلاً منهم.. معروفين لهم بالاستقامة والأمانة والصدق.. فحملوا لهم المنهجَ الذي ارتضاه الله لخلافته وعبادته في الأرض.. وحذَّروهم مغبة المخالفة عن أمره. ذلك المنهج من لدن الحكيم العليم.. يعطى كل ذي حق حقه, ويطالب كل فرد بأداء واجبه والوفاء بمسئوليته. وتمضي السورة لتبين لنا من عالَم الغيب هذا الموقف من يوم الحساب.. ليكون تذكرة وتبصرة:
نداء واستفهام للتقرير والتقريع. ينادي: يا جماعة الكبراء ويا جماعة العامة! يا جماعة القادة ويا جماعة الأتباع, يا معشر أولي الأمر ويا أيها الرعية! هل تعترفون بأن الله أرسل اليكم رسلا من بينكم.. تعرفونهم ويعرفونكم.. تشهدون لهم بالصلاح, وحسن الخلق, وشرف الكلمة, وطهارة السيرة. أقاموا الأدلة البيِّنة على أنهم من عند الله تعالى.. وبلّغُوكم منهجَ الحياة الذي ارتضاه الله لسعادتكم, وحذَّروكم سوء العاقبة إذ خالفتم منهج الله؟ فلا يملكون إنكارًا, ويبادرون الى الإعتراف والتسليم. ولكن الفريقين كانوا منغمسين في ملذات الدنيا ومطالب العيش, وغفلوا عمَّا وراء ذلك. فلا جزاء لهم إلا سوءَ حالهم , وضياع دولتهم, وكسْر شوكتهم, وخراب عامرهم.. جزاء وفاقا لسوء سلوكهم وتعاميهم عن سواء السبيل.. مصداقا لقول الله تعالى:
وتمضي الآيات التي تخاطب الجن والإنس.. لتقرر أن الله تعالى لا يغيب عنه ما يفعله كل فرد منهم, وأن كلاًّ منهم سينال جزاءه الذي يستحقه بحسب عمله. وسردت الآيات بعضًا من أباطيلهم.. إذ حلّلوا وحرّموا من الأنعام كما زين لهم هواهم, مع أن الله تعالى خلقها لمنفعة الناس جميعًا. فسياق السرد القرآني لا يُفهم منه ما يُخرج المخاطبين عن مألوف البشر, غاية ما في الأمر أنه يبين أن مسئولية البشر عامة.. يشترك فيها الحكام والرعية, وأن الهداية الربانية عامة ليهتدي بها الخاصة والعامة, وأن الرَّسلَ للبشر وهم منهم. والنبي الأعظم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.. هو نبي للإنس والجن بلا خلاف. والكتابُ الذي أنزل عليه – أي القرآن المجيد – يخاطب الجن والإنس.
فلا مناص من أن يكون الفريقان اللذان أُرسل إليهما رسولٌ منهما من جنس واحد.. أي من البشر. وخلاصة القول إن الفريقين جنسٌ واحد ولا فرق بينهما إلا في بعض الخصائص التي تتعلق بالوظيفة الاجتماعية أو المركز الأدبي بين الناس. ولا بأس من زيادة الإيضاح هنا؛ فنذكّر انفسنا بأن الفئة الحاكمة سُمِّيت في القرآن (جنًّا) لأن صفة الخفاء أو الإخفاء تلازمهم من زاويتين: الأولى – لأنهم في العادة ناءون عن العامة والرعية بحكم مراكزهم القيادية.. خلف أسوار قصورهم وأبواب عروشهم.. يحجبُهم الحرّاسُ والحجّاب عن الناس. والثاني – لأنهم يحجبون الناس ويغطُّون عليهم إذا كانوا معهم.. ذلك لأن زخارف الملك وبهارج السلطان من حولهم تبهر العيونَ وتجذب الأنظار نحوهم, فلا يُرى في وجودهم غيرُهم . ولعلنا نستحضر صورة أحدهم عندما تتركز عليه عدسات التصوير وبريق الأضواء.. فلا يظهر على شاشة التلفاز إلاّ مُحَيَّاه, ولا تقع العيون إلا على طلعته البهية.. وكل شخص سواه مجرد خلفية للصورة.. أو "ديكور" لإبراز الأصل دون أن يلفت هو الأنظار!.