وردت الجزيةُ في الكتاب المقدس 31 مرة؛ 22 مرة في العهد القديم، و9 في العهد الجديد. بينما لم تَرِدْ في القرآن الكريم إلا في موضعٍ واحد، وهو قوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة 29)
وكثيرا ما ادَّعى أعداء الإسلام، استنادا إلى هذه الآية، أن الإسلام يأمر بقتال أهل الكتاب كافةً بعلَّة كفرهم، وأن الحرب ضدهم إنما هي عقوبة على عدم إيمانهم بالله وباليوم الآخر، وعدم تحريمهم ما حرَّم الله ورسوله، وعدم اعتناقهم للدين الحق، وأن من واجب المسلمين فرض الجزية عليهم وإذلالهم! وهذا الادِّعاء في الواقع هو خيانةٌ وتحريف وكذبٌ متعمد، لأن هذه الآية إنما تتعلق بالمعتدين من أهل الكتاب، وتذكر صفاتهم وأسباب عدوانهم والأسس التي يرتكزون عليها في سلوكهم، ويجب أن تفهم على ضوء الآيات المحكمة التي تنظم القتال والتي على رأسها قوله تعالى:
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة 191)
والتي هي الآية الأولى التي تذكر مشروعية القتال في القرآن الكريم وفقا لترتيبه النهائي، وفي موضعها هذا إشارة إلى أهميتها باعتبارها القاعدة الأساس والآية المحكمة التي يجب أن تفهم الآيات الأخرى على ضوئها. فهذه الآية توضح أن القتال المشروع هو ضد الذي يقاتلونكم، وليس مسموحا لكم أن تمارسوا أي نوع من العدوان؛ سواء في ساحة المعركة، أو فيما قبلها أو بعدها من تحركات أو إجراءات وتصرفات لها سمة العدوان.
وواضح أن الذين تحضُّ آية الجزية على قتالهم هم الذين بدءوكم بالقتال من أهل الكتاب من المعتدين. أما وصفه تعالى لهذه الفئة أنهم: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، فهذا إشارة إلى أنهم لا يؤمنون بما تؤمنون به من عدل وتسامح ولا يتصرفون وفقه، وهم يرتكبون المظالم التي لا يرجون حسابا بعدها لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، وهم يبيحون ما حرَّمه الله تعالى ورسوله من مظالم وتصرفات في القتال وفي العداوة مع غيرهم، وهم لا يدينون بالدين الحق الذي يحفظ متبعَه من كل هذه التصرفات ويمنعه منها. ثم يبدو أن هذه الآية تشير إلى أن تصرفاتهم تلك مرجعها الكتاب المقدس الذي أورد أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان وهي ليست من دينه الحق في قوله: "مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ "، ثم يذكر الله تعالى بعدها الجزية بقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وكأن الله تعالى يشير إلى حكم الجزية في الكتاب المقدس، ويدين سلوك أهل الكتاب وتصرفاتهم وأحكامهم في القتال عموما ومرتكزاتهم التي ينبع منها عدوانهم.
والواقع أن الكتاب المقدس يقرِّ الجزية ويعتبرها عرفا معترفا به كان بين الشعوب في السابق ومارسه بنو إسرائيل، ولا بد من فرضها على المهزوم وإخضاعه وإذلاله. ويذكر الكتاب المقدس في أكثر من الموضع أن في الجزية إذلالا ومهانة وصغارًا. فجاء القرآن الكريم ليدين هذه التصرف وهذا العرف، وبيَّن بأن هذا الحكم لم يكن أصلا حكما إلهيا، فهو ليس من دين الله الحق، ولكن، بما أن هؤلاء يسعون في قتالهم لكم أن يضعوكم تحت الجزية ويذلوكم ويهينوكم، فالواجب عليكم أن تعاملوهم بالمثل، وتفرضوا عليهم الجزية لكي يتجرعوا من كأس الصَّغار والذلِّ الذي يريدون أن يسقوكموه.
هذه هي المسألة ببساطة. فالجزية هي حكم قرآني مشروط مرتبط بتصرف وسلوك العدو، وهي مرتبطة بالعدوان والقتال بداية، وبالقتال الديني خاصة؛ من جانب الذين يؤمنون بمشروعية الجزية وفرضيتها في دينهم، ويسعون لوضع المسلمين تحتها إن هزموهم أو أخضعوهم.
أما الظن بأن الجزية يجب أن تُفرض على المواطنين من أهل الكتاب، فهذا لا أصل له، ولا دليل عليه، ومصدره استنباط واستقراء خاطئ للتاريخ. ففي فترة من الفترات كانت الدول الإسلامية تجبي الزكاة من المسلمين وتأخذ من المواطين غير المسلمين ضريبة كانت تسمى جزية. ولكن الزكاة التي تأخذها الدولة لا تكون زكاة وعبادة عند الله تعالى إلا إن كان يدفعها المسلم برضىً قلبي طاعة لأمر الله تعالى، وما كان يؤخذ من غير المسلمين ليس جزية وإن سُمي كذلك، كما لم يكن في جبايتها إذلال ولا مهانة ولا صغار. فلما وجدوا أن الجزية كانت تؤخذ من المواطنين من أهل الكتاب في أوقات معينة من التاريخ، اختلط عليهم الأمر.
الخلاصةُ أنَّ الجزية في الأصل هي حكمُ الكتاب المقدس. والقرآنُ الكريم لم يفرضها إلا عقوبة لأهل الكتاب الذين يؤمنون بها وكانوا يفرضونها على غيرهم وأرادوا فرضها على المسلمين. والمواطن، أو المسالم، أو مَنْ لم يقاتل قتالا دينيا، أو مَنْ لا يؤمن بها من المقاتلين كحكم في شريعته ولا يسعى لفرضها، فلا تفرض علي أيٍّ منهم.
فالواجب على معارضي الإسلام الذين ينتقدونه أن ينظروا إلى الخشبة في أعينهم قبل أن ينتقدوا القذى في عين غيرهم، والواجب على المسلمين أن يحرصوا على عدم تشويه الإسلام وصورته النقية بأفكارهم البالية المشوهة وأفعالهم الإجرامية التي ينسبونها إليه ظلما وعدوانا.
تميم أبو دقة
25/7/2014
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.