الأدلة القطعية في إثبات أن المقصود بنزول المسيح بن مريم في آخر الزمان، هو بعثة شخصٍ من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم مثيلاً للمسيح الإسرائيلي عيسى عليه السلام
إن أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية، هم أصحاب القول الذي أثبت وفاة المسيح ورفعه بعد أن أنجز مهمته، وهم يؤمنون بكل ما صح وثبت من الحديث النبوي في ذكر نزول المسيح في آخر الزمان إماماً وخليفةً للمسلمين، وهم يقدِّمون في هذه المسألة قولاً فصلاً، جامعاً مانعاً معاً، وقد تميَّزوا في قدرتهم على الجمع بين كافة النصوص القرآنية والحديثية، والتوفيق فيما بينها، بتأويل الأحاديث وتنزيلها بصورةٍ رائعة الجمال، تنسجم مع حُكم القرآن، وتسير في ركاب سنن الله فلا تخالفها أو تعارضها، وبأسلوبٍ منهجيٍّ موضوعيٍّ علميٍّ، يشهد القرآن بصحته والسنة والعلم والعقل الرشيد. فاستطاعوا بعون الله وتأييده أن يزيلوا كل الشبهات والإشكاليات والتناقضات، ولم يغادروا شاردةً ولا واردةً منها، إلا أجاحوها واستأصلوها من جذورها. فتفرَّدوا بذلك وتفوَّقوا على كل الفرق والمذاهب. ولم يقتصر جمال قولهم وقوة أثره على ما ذكرت آنفاً من الإيجابيات، بل لقد تعدَّى ذلك بكثيرٍ من المحاسن والميزات، ومنها أن أثره امتدَّ بفضل الله إلى معتقدات النصارى الباطلة وبدعاتهم، فاقتحم قلاعها واكتسح حصونها، وحطَّم كل ركنٍ مَشيدٍ فيها قام على الباطل، وسوَّى بالأرض كل بنيانٍ أُسس على الكفر والشرك والضلالات. ولكن كيف تمَّ كل ذلك وتيسَّر إنجازه لهذه الجماعة؟!.
الجواب بكل بساطةٍ، هو أنه ما كان كل ذلك بمقدور بشرٍ ما، ولكنها العناية والرحمة الإلهية، التي قضت كشف حُجُب الشبهات وأستار الشرك والظُلمات، عن كل ما توارى من الحقائق واليقينيات، وذلك لمّا دعت الحاجة واقتضت الضرورة أن يبعث الله في الأمة الإسلامية مجددها الأعظم، لينقذ أمة حبيبه، وينصرها، في وقت الفتن العصيب، وفي زمن انكسار الإسلام وغلبة الصليب، ليكون إماماً مهدياً، ومسيحاً محمدياً، تابعاً وخادماً للسيد الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وسلم. فأخبرنا هذا المصلح المبعوث من الله مؤيداً بالوحي والآيات، أنه هو المسيح الموعود المُزمع نزوله في آخر الزمان، والذي تواترت بذكره الروايات والأخبار الصحيحة.
وبذلك حصحص الحق وتجدّد، وصدح الصدق بالقول الفصل وغرّد، فاستبان المقصود من نزول المسيح ابن مريم في آخر الزمان، بأنه نزول رحمة الله ونعمته على الخلق، ببعثة رجلٍ من أتباع سيد الرسل وخاتم النبيين، مجدداً للدين ومصلحاً لشؤون الملَّة. فوُصِف في الروايات بالمسيح ابن مريم، على سبيل الاستعارة التصريحية، من قبيل التشبيه البليغ، لبيان المماثلة التامة بين المشبه (المسيح المحمدي) وبين المشبه به (المسيح الموسوي) في الأحوال والصفات. ولسنا هنا بصدد البحث لإثبات صدق هذا المبعوث أو نفيه، بل نحن بصدد بحث وإثبات القول الذي تتبناه الجماعة الإسلامية الأحمدية، في شأن نزول المسيح في آخر الزمان، كما ورد ذكره في الروايات النبوية المتواترة.
فالحق أن لفظ (المسيح) أو (عيسى) أو (ابن مريم) الوارد في روايات النزول، إنما هو استعارةٌ ووصفٌ وتشبيهٌ، يُقصد به نزول شخصٍ يماثل (المسيح عيسى بن مريم) ويُشابهه في الأحوال والصفات من أمة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وهناك حقائق وثوابت مُسلَّمٌ بها، ثابتةٌ في القرآن والسنة بنصوص صحيحة صريحة، وهي بمجموعها تمثل مقدمةً، تؤدي إلى نتيجةٍ حتميةٍ قطعية الثبوت والتحقق، وهي: استحالة عودة المسيح الموسوي عيسى ابن مريم إلى الدنيا مرةً أخرى، ووجوب بعثة مسيحٍ محمديٍّ، تحقيقاً للنبوءات والبشارات، والأحمديون يستندون إلى تلك الحقائق والثوابت، في تقديم حججهم وبراهينهم، وفيما يلي سنعرض أهم حججهم وبراهينهم:
1- ثبوت وفاة المسيح وموته بأدلةٍ يقينيةٍ من القرآن والسنة، لا تحتمل تأويلاً ولا جدلاً. كما أسلفنا بيانه في منشورٍ سابق.
2- ثبوت أن الذي يتوفاه الله، فلا يمكن أن يرجع إلى الدنيا مرةً أخرى، ما لم يرد نصٌ صريحٌ من الله باستثناء أحدٍ، وذلك لم يرد في حق المسيح، في قرآنٍ أو سنةٍ أبداً. والآيات الشاهدة على ذلك كثيرة.
3- ثبوت أن البشر كافةً لا يذوقون إلا موتةً واحدةً وهي الموتة الأولى، كتبها الله عليهم في هذه الدنيا، وخاصةً المؤمنين منهم، وعلى رأسهم الأنبياء، ما لم يرد نصٌ صريحٌ من الله باستثناء أحدٍ، وذلك لم يرد في حق عيسى في القرآن أو السنة مطلقاً.
4- ثبوت شهادة المسيح يوم القيامة، بأن تأليه النصارى له لم يحدث إلا بعد موته، وشهادته يوم القيامة بأنه لم يشهد ذلك عليهم في حياته. وهو ما يؤكد أنه لن يعود إلى الدنيا.
5- ثبوت أن رسالة المسيح عيسى إلى بني إسرائيل، ومهمته وبعثته فيهم كانت حصراً عليهم بصريح العبارة القرآنية، التي لا يمكن أن يلغيها أو يبطلها شيءٌ إلى يوم القيامة (ورسولاً إلى بني إسرائيل).
6- لم يرد في نصٍ من القرآن أو الحديث ذكرٌ البتة، يذكر إن الله سيُحيي عيسى أو سيبعثه من قبره مرةً أخرى.
7- لم يرد في نصٍ من القرآن أو الحديث قولٌ، يقول إن المسيح رُفع إلى السماء أو سينزل من السماء، وليس للفظة السماء وجودٌ في ذكر الرفع أو النزول قط. وإن تعبير (النزول) الوارد في أحاديث نزول المسيح، لا تعني النزول المادي من عُلُوٍ وارتفاعٍ، ولا يحتمل إلا معنى الحلول والمجيء والإيجاد، أو البعث والإرسال من قِبَل الله، وذلك ما يؤكده القرآن واللغة والسياق، ففي سياق ذكر نعمة الله على المؤمنين في آخر الزمان، ورحمته بأمة حبيبه محمدٍ، جاءت البشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنزول المسيح إماماً وخليفةً، ناصراً للدين، في زمن فتن الدجال، وغلبة الصليب وأهله. ومثال معنى ذلك النزول، قول الحق عز وجل: (.. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) [الطلاق : 10-11]. وقوله: (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) [الزمر : 6]. وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً) [الأعراف : 26] . وهذا المعنى ثابت في الكثير من أحاديث رسول الله الصحيحة، وفي كل معاجم اللغة وقواميسها. ويمكن لأيِّ باحثٍ مراجعة ذلك والاطلاع عليه.
8- لم يرد في كل الأحاديث التي ذكرت نزول عيسى، قولٌ يؤكد أن المسيح عيسى ابن مريم الذي سينزل في آخر الزمان، هو بعينه وبدنه ذلك النبي الإسرائيلي الذي بُعث سابقاً، بل ثبت وصف رسول الله له على غير وصفه للمسيح عيسى الأول كما سيأتي في النقطة التالية. ولم يرد في نصٍ ذكر أنه (سيعود) أو (سيرجع)، وهذان اللفظان أفصح وأبلغ من لفظ (النزول)، إن كان المقصود هو عيسى ابن مريم النبي الإسرائيلي نفسه. ولكن الرسول الخاتم الأبلغ والأفصح في تاريخ العربية كلها، والذي أُوتي جوامع الكلم، لم يستخدم أيَّاً من اللفظين السابقين ولا مرة. ولم يذكر إلا اسم (المسيح) أو (عيسى) أو (ابن مريم) مقترناً بلفظ (النزول)، وذلك يحتمل معنيين لا ثالث لهما حسب لغة العرب، وهما: أن المقصود هو ذلك النبي الإسرائيلي المبعوث سابقاً بعينه وبدنه، أو أن المقصود شخصٌ يُشابه ذلك النبي الإسرائيلي في أحواله وصفاته، وذلك أسلوبٌ تسمِّيه العرب (استعارة). ولما ثبت بالأدلة اليقينية استحالة المعنى الأول، فلم يبقَ إلا التسليم والقبول بالمعنى الثاني.
9- فيما يلي إثبات أن وصف المسيح النبي الإسرائيلي، يختلف تماماً عن وصف المسيح الموعود به للأمة المحمدية، كما ذكره الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فيما أخرجه البخاري من ذكر وصف المسيح الأول والثاني في روايتين متتاليتين:
فجاء في الرواية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم رأى المسيح عيسى ابن مريم ليلة المعراج وقال في وصفه: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعْدٌ عريض الصَّدر، وأما موسى فآدم جسيمٌ سَبطٌ .. ".
وفي الرواية التالية من صحيح البخاري، نجدُ أن رسول الله لم يتعرَّف على صورة المسيح الذي سينزل في زمن الدجال، إلا بعد أن سأل عنه، ما يعني أنه لم يره من قبل، ولقد وصفه بوصفٍ مغايرٍ تماماً لوصف المسيح الأول، فقال: " بينا أنا نائمٌ رأيتني أطوف بالكعبة، فإذا رجلٌ آدم سَبط الشعر، بين رجلين ينطُف رأسه ماءً، فقلت من هذا، قالوا ابن مريم، فذهبت ألتفت، فإذا رجلٌ أحمر جسيمٌ جعد الرأس أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبةٌ طافيةٌ، قلت من هذا، قالوا هذا الدجال أقرب الناس به شبهاً ابن قَطَن، وابن قطن رجلٌ من بني المصطلق من خزاعة".
ومعلومٌ أن ابن عباس وأبا هريرة كانا يقولان ويرويان في وصف عيسى أنه (أحمر)، ولكن ابن عمر كان يُصرُّ أنه (آدم)، بل وكان يحلف على ذلك، حيث قال: " لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيسى أحمر ".
ولا بدَّ أن ابن عمر قد سمع سماعاً جازماً حاسماً في وصف عيسى أنه (آدم) فساغ له الحلف على ذلك لتيقنه منه.
وهذا الاختلاف بين الصحابة في وصف عيسى هو خير شاهدٍ على أن ثمة وصفين متباينين ثبتا عن رسول الله للمسيح، وكلا الوصفين صادقين، ولقد أصاب كلٌ من أبي هريرة وابن عباس في ذكر صفة المسيح بأنه (أحمر)، فذلك هو المسيح الإسرائيلي الذي قد خلا ومات، حيث قد رآه الرسول ليلة المعراج ووصفه بالأحمر، كما تؤكد الروايات، وكذلك لقد صدق ابن عمر، وكان حلفه في محله، عندما ذكر صفة المسيح بأنه (آدم)، فذلك هو المسيح المحمدي الذي سيُبعث في آخر الزمان، وتشهد على ذلك الروايات التي ذكرت المسيح بأنه آدم في رؤيا رسول الله حيث رأى في تلك الرؤيا الدجال أيضاً، وهو ما يُثبت أنها نبوءةٌ تتحدث عن المسيح النازل في آخر الزمان، وعن الدجال الذي سيقتله المسيح.
وهذه هي الأحاديث الثلاثة كما أوردها البخاري متتاليةً في صحيحه:
3255 - حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا إسرائيل: أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط، كأنه من رجال الزط).
3256/3257 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أبو ضمرة: حدثنا موسى، عن نافع: قال عبد الله:
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهري الناس المسيح الدجال، فقال: (إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدم، كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم، ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا، أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال).
تابعه عبيد الله، عن نافع.
(3257) - حدثنا أحمد بن محمد المكي قال: سمعت إبراهيم بن سعد قال: حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:
لا والله، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى أحمر، ولكن قال: (بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم، سبط الشعر، يهادى بين رجلين، ينطف رأسه ماء، أو يهراق رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم، فذهبت ألتفت، فإذا رجل أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا الدجال، وأقرب الناس به شبها ابن قطن).
10 - ثبوت ختم النبوة والرسالة المحمدية، وثبوت اكتمال الدين بالشريعة الإسلامية، وثبوت خيرية وأفضلية الأمة المحمدية على الأمة الموسوية وشهادتها على جميع الأمم، وثبوت تشابه الأمتين المحمدية والموسوية في العديد من الآيات والأحاديث، فكما أُرسل على رأس السلسلة الموسوية موسى عليه السلام بالكتاب والشريعة، أرسل سيدنا محمدٍ في رأس السلسلة المحمدية بالكتاب الكامل والشريعة التامة، وكما أرسل المسيح الإسرائيلي عيسى ابن مريم مجدداً لدين موسى ومسيحاً ليمسح الباطل والشبهات عن دين موسى في آخر سلسلة المجددين الموسويين، فالذي سينزل مجدداً لدين محمدٍ في آخر سلسلة المجددين المحمديين هو المسيح المحمدي الذي سيمسح الباطل والشبهات عن دين سيدنا محمدٍ. والقول بأن المسيح عيسى سينزل بشحمه ولحمه في آخر الزمان إماماً وخليفةً للمسلمين، سينقض كل تلك الثوابت، فلا ختم النبوة والرسالة المحمدية سيسلم من ذلك، ولا كمال الدين وتمام الشريعة، ولا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها وشهادتها. ولكن مجيء وبعثة رجل من أتباع سيدنا محمد وخُدَّامه، ومن أبناء الأمة، مسيحاً وإماماً حكماً عدلاً، من شأنه أن يؤكِّد تلك الثوابت ويُرسِّخها، ويزيدها قوةً وشرفاً وجمالاً. ومثل ذلك كمثل المُعلِّم البارع والأستاذ العظيم، الذي يخلفه أحد تلاميذه النجباء، الذي تعلم وتربّى وتزكَّى وتخرَّج على يد ذلك الأستاذ العظيم، فإن هذا التلميذ الذي يحل محلَّ أستاذه في تعليم منهج أستاذه وتلقينه للآخرين، وتربيتهم وتزكيتهم وفق ما رباه وزكاه معلمه، يزيد أستاذه شرفاً وعزاً ومجداً، وتعظم في النفوس مكانته ومنزلة منهجه وكتابه وتعليمه وتزكيته. ولكن ذلك لا يتأتى ولا يكون لو أن أستاذاً آخراً، جاء وحلَّ محل ذلك الأستاذ العظيم، وسيزيد الأمر سوءاً، لو أن ذلك الأستاذ شرع في تعديل منهج الأستاذ العظيم، ونسخ بعض تعاليمه، فأيٌّ أفضليةٍ ستبقى لذلك الأستاذ والمعلم الأعظم. ومثل ذلك أيضاً كالشجرة العظيمة الباسقة التي تكاد أن تيبس وتذبل، فإنها تجدد نفسها بنفسها بمجرد نزول غيث الرحمة الإلهية عليها، فتنبثق الخضرة من داخلها بالبهاء والنضرة من جديد، لتثمر وتؤتي أكلها بإذن ربها، ولا يمكن أن تاتي شجرةٌ أخرى، لتهب تلك الشجرة التي شارفت على الذبول خضرةً ونضرةً.
11- ثبوت سنة الله في إرسال الرسل والأنبياء والمجددين، بإنزال أمر الله على الأرض رحمةً منه، ونعمةً ومنَّة على الخلق، ببعث رجلٍ من أهل القرى، ومن أبناء الزمان والمكان الذي يُبعث فيه، ليجدد أمر الدين، ولم يثبت من قبل غير ذلك قط. بل إن الكثير من السنن الإلهية المثبتة في القرآن والسنة تشهد باستحالة بعث المسيح وعودته إلى الأرض مرةً أخرى.
12- الاستعارة التصريحية، هو أسلوبٌ بديعٌ مستعمَلٌ في لغة العرب بكثرة، وهي من قبيل التشبيهٌ البليغٌ، الذي تُحذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه، ويغدو استعارةً عند حذف أحد طرفيه الرئيسين (المشبه أو المشبه به)، وفيه يتم إطلاق اسم الشيء على ما يُشابهه بأكثر خواصه وصفاته، وفي حالتنا التي هي محلُّ بحثنا، حُذِفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، وحُذِف المشبه، وأطلِق عليه اسم المشبه به، لبيان المشابهة والمماثلة بأسلوب بليغٍ فصيحٍ، فكأن المشبه ٌقد أصبح هو نفسه المشبه به بعينه. وتلك استعارةٌ بليغة المعنى والدلالة، في الإيحاء والتأثير على المستمع. وأمثلة ذلك كثيرةٌ في القرآن وأقوال الرسول الأكرم، وكلام فصحاء العرب، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
• قول الحق سبحانه: (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة : 14] . فالحق عز وجل في الآية السابقة أطلق اسم (الشياطين) على اليهود، الذين كان المنافقين يخلون بهم، ويظهرون لهم كفرهم، واستهزائهم بالمؤمنين، وفي ذلك استعارةٌ تصريحية، يُفهمُ منها أن اليهود كالشياطين في الخبث والفساد، فحُذفت أداة التشبيه ووجه الشبه والمشبه، وذُكر المشبه به، لإعطاء المعنى جمالاً وبلاغةً في التأثير والإيحاء.
• قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه: " إنّكن صواحب يوسف، مروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس "( ). فهاهو رسول الله يطلق على أزواجه (صواحب يوسف) لوجود تشابهٍ في شيء واحدٍ فقط، وهو الكيد، فكيف لو كان التشابه في أمورٍ عديدة؟.
• وفي روايةٍ عند أحمد ابن حنبل في مسنده، وغيره من أئمة الحديث، تحكي أحداث غزوة بدرٍ الكبرى، جاء فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب مع ابن مسعود ليرى جسد أبي جهل ، وقال : " كان هذا فرعون هذه الأمة " . فهل كان أبو جهل فرعوناً حقاً؟ وهل حكم مصر يوماً، ليُسمى فرعوناً؟ كلا ، ولكنه التعبير البليغ لأعظم وأبلغ وأفصح من نطق بالعربية، حيث سمّى أبا جهلٍ فرعوناً، لبيان مماثلة طغيانه بطغيان فرعون موسى.
• أطلق كفار قريش اسم (ابن أبي كبشة) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، استهزاءاً منهم، وأبو كبشة هذا كما ذكر أصحاب السير والمفسرون، هو رجل خالف قريش في عبادتهم الأصنام ودعا إلى عبادة (نجم الشعرى)، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، للماثلة بينه وبين أبي كبشة، في مخافة دينهم، وقالوا: " ما لقينا من ابن أبي كبشة!"، وقال أبو سفيان في قصته المشهورة مع هرقل، وفي يوم الفتح، كما ذكرت كتب الصحاح: " لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ".
• قال عمر بن الخطاب قولته الشهيرة، التي سجلتها كتب الصحاح والسير: " رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عما تنفرج؟ ". وكان ذلك قبل أن يلتقي عمرو بن العاص بقائد جيوش الروم، المًسمَّى أرطبون، قبل فتح بيت المقدس، وكان أرطبون هذا داهيةً، يُضرب به المثل في الدهاء والذكاء، فأطلق الفاروق اسم (أرطبون) على (عمرو)، لبيان المماثلة بينهما في الذكاء والدهاء، كأنه قال مثلما أن أرطبون هو داهية الروم، فإن عمرو بن العاص هو داهية العرب.
• لو سمعت اليوم أحداً يقول: لقد جلست اليوم مع سيبويه النحوي، ونزلت ضيفاً على حاتم الطائي". فلن يخطر ببالك قط أن ذلك الشخص يعني حقاً أنه التقى بسيبويه أو حاتم الطائي الحقيقيين، بل ستفهم أنه يقصد شخصاً نحوياً عالماً باللغة العربية وقواعدها كسيبويه، وشخصاً كريماً جداً كحاتم الطائي، لأن سيبويه وحاتم الطائي الحقيقيين قد ماتا قبل قرونٍ عدَّة، فلم يبقى لقول ذلك الشخص معنى يحتمله، إلا التشبيه البليغ بأسلوب الاستعارة الصريحة. ولو أن خطيباً قال في خطبته على المنبر، مبشراً الناس بتحرير القدس: ووالله إن يوم النصر قريبٌ، حين سيُبعث فينا صلاح الدين الأيوبي ليقود الأمة نحو تحرير القدس ". فأي مغفلٍ سيفهم أن المقصود من قول الخطيب هو قيام صلاح الدين الحقيقي من قبره وعودته إلى الحياة؟! حتماً لا يوجد مغفلٌ بهذه الدرجة من السذاجة حسب علمي. ولا بد أن جميع الحاضرين والسامعين سيدركون أن الخطيب يقصد بعثة رجلٍ مثيلٍ لصلاح الدين في صفاته وأحواله وإيمانه وشخصيَّته القيادية، لأن القدس لن يُحرِّرها إلا رجلٌ كصلاح الدين. وكذلك هو الحال عندما يُطلق الناس على بعض القادة والأمراء، اسم المعتصم أو الحجاج أو غيرهما من قادة الأمم التي خلت، لوجود صفةً يشترك فيها طرفا التشبيه. لذا يمكن أن يخاطب شخصٌ أحد الطغاة بالقول: " لقد طغيت كفرعون، ويلزمك موسى لإيقافك عند حدِّك "، وهو يعني شخصاً كموسى . أو يقول لمجموعةٍ من الناس: " لقد ساءت أخلاقكم وفسدت كاليهود، وسيأتيكم المسيح ابن مريم لإصلاحكم "، وهو يقصد شخصاً مثيلاً للمسيح. وهذه الأخيرة هي عين المقصود الذي أراده صلى الله عليه وسلم، في ذكر نبوءات وبشارات نزول المسيح، حيث قد تحدَّث عليه الصلاة والسلام وأسهب في ذكر ووصف علامات آخر الزمان وأحواله، وبيَّن أن المسلمين سيشابهون اليهود كثيراً في أخلاقهم وتديُّنهم الزائف، وفي تفرُّقهم واختلافهم، وذلك ما أشار إليه القرآن في مواضع عديدة، فقال الرسول مخاطباً أمته، بما معناه: " إنكم في آخر الزمان حين يفسُد تدينكم، وتسوء أخلاقكم، وتتفرق جماعتكم شيعاً وأحزاباً، فتغدون كاليهود لما طال عليهم الأمد من بعد موسى، وقست قلوبهم، فسوف ينزل المسيح ابن مريم فيكم مصلحاً مجدداً، وحكماً عدلاً منكم ". وهو يعني شخصاً مثيلاً للمسيح ابن مريم، وفق مقتضى السياق، الذي تشابهت الظروف فيه والأحوال والصفات، لكلٍ من المسيح الموسوي والمسيح المحمدي.
13- ثبوت أن المسيح المزمع نزوله هو شخصٌ من الأمة الإسلامية، وذلك ما تشير إليه بعض الأحاديث الصحيحة، وتؤكده بعضها، ومن ذلك ما يلي:
• عن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ؟ "( ).
وعنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَأَمّكُمْ؟ "( ).
وعنه أَنّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمّكُمْ مِنْكُمْ؟، فَقُلْتُ (أي الراوي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) لاِبْنِ أَبِي ذِئْبٍ: إِنّ الأَوْزَاعِيّ حَدّثَنَا عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَإِمَامَكُمْ مِنْكُمْ)، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، تَدْرِي مَا أَمّكُمْ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: تُخْبِرُنِي. قَالَ: فَأَمّكُمْ بِكِتَابِ رَبّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنّةِ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم "( ) .
ومن الروايات السابقة يتضح أن المسيح ابن مريم وإمامنا الذي سينزل فينا آخر الزمان هو فردٌ منَّا، أي شخصٌ من الأمة الإسلامية، فذكره صلى الله عليه وسلم بصفتين، الأولى (ابن مريم)، والثانية (إمامكم)، وقال بأنه سينزل (منكم)، ومعنى الحديث: كيف سيكون حالكم وردة فعلكم حين يُبعث فيكم مسيحكم وإمامكم منكم ليأمَّكم ويقودكم، وقوله (فيكم .. منكم) كقوله عزَّ وجل: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ). ويؤكد ذلك المعنى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: " ليدركن الدجال قوم مثلكم أو خيراً منكم ثلاث مرات، ولن يخزي الله أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها "( ). حيث نسب الرسول الأكرم عيسى بن مريم إلى الأمة كما نسب نفسه بقوله (أنا أولها) وبالمثل قال عن عيسى (آخرها)، أي كما بُعث المصطفي في أول الأمة من أهل القرى، فكان أول المسلمين، كذلك سيُبعث المسيح في آخر الأمة من أهل القرى وسيكون شخصاً من المسلمين. وهو الشخص الذي ذكره القرآن بأنه سيتلو الرسول شاهداً على صدقه وهو منه، بقوله عز وجل: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً) .
• ذكرت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الإمام المهدي والمسيح المحمدي شخصٌ واحدٌ، فلمَّا ثبت ذلك، وثبت كذلك من الأحاديث والأخبار المتواترة عنه أن المهدي شخصٌ من أبناء الأمة الإسلامية، فالنتيجة الحتمية لذلك هي أن المسيح الموعود هو ذلك الإمام الذي سيُبعث في هذه الأمة من أبنائها. حيث وُصف باسم المسيح في بعض الأحاديث، ووُصف بالمهدي في أحاديث أخرى، وذُكر في وصف المسيح وفي وصف المهدي، بأنه سيأتي إماماً وخليفةً للمسلمين، وحكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، ليملأ الأرض عدلاً ونوراً، بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، وهذه الصفات تشترك في ذكرها أحاديث المسيح والمهدي، ما يؤكد أن المسيح والمهدي صفتان لشخصٍ واحدٍ من الأمة. وإليكم الأحاديث التي تؤكد ذلك وتشهد عليه:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى بن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها "( ).
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزداد الأمر إلا شدةً. و لا الدنيا إلا إدباراً. ولا الناس إلا شحاً. ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس. ولا المهدي إلا عيسى بن مريم "( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد "( ).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم ، حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي ، يواطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً " ( ).
14- لقد ثبت من أقوال أئمة أهل البيت ما يشير إلى أن المهدي هو مثيل المسيح عيسى بن مريم، وهو ما يؤكد أن المقصود بالمسيح النازل في زمن المهدي هو المهدي نفسه، وإنما وُصف بذلك بسبب مماثلته ومشابهته للمسيح. وفيما يلي أهم روايةٍ وردت في تأكيد ذلك: ورد في غيبة النعماني هذا الحديث: روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال يوماً لحذيفة بن اليمان: " يا حذيفة لا تحدث الناس بما لا يعلمون فيطغوا و يكفروا ..... يا ابن اليمان إن النبي (ص) قال .......... اللهم اعطه جلادة موسى واجعل في نسله شبيه عيسى (ع) …". ونلاحظ ذكر شبيه عيسى في هذه الرواية وليس عيسى بشحمه ولحمه.
15- إن النبوءات التي وردت في الكتاب المقدس بشأن المجيء الثاني للمسيح عليه السلام، تذكر بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ لا يقبل الجدل والتأويل، أن الذي سيأتي هو مثيل المسيح عليه السلام، ومن تلك النبوءات ما ورد في الإصحاح السابع من سفر النبي دانيال، حيث كان الله قد كشف للنبي دانيال في الرؤيا عمّا سيحصل إلى حين مجيء مثيل المسيح، وعن الممالك الأربع التي ستسيطر على منطقة الشرق الأوسط حتى ذلك المجيء، ثم ذكر في هذا الوحي والرؤيا المدهشة ما يلي: " كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ الإِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى قَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ " (دانيال 7 : 13،14). ومن تلك النبوءات ما قاله المسيح في وصاياه الأخيرة لتلاميذه، حيث أخبرهم عن حقيقة مجيئه الثاني، وكيفية متابعة عمل المسيح في العالم، إذ قال لهم: " الذي سيرسله الآب باسمي، فإنه يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم، فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع " (يوحنا 14 : 26 ،27). وهنا تتجلى حقيقة المجيء الثاني للمسيح بصورةٍ لا لبس فيها ولا خفاء، إذ أن المجيء الثاني له سيكون متمثلاً في شخصٍ آخر سيرسله الله باسم المسيح عليه السلام، أي سيحمل اسمه وسمته، لأجل أوجه الشبه والمماثلة بينهما.
وقد يستنكر إخواننا المسلمون احتجاجنا بهذه النصوص من الكتاب المقدس، بدعوى تحريفه وتبديله، فنرد عليهم: نحن نؤمن أن التحريف وأيدي التغيير والتبديل قد طالت الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد (التوراة والإنجيل)، ولكن ما زال فيه أموراً صحيحةً كثيرةً، ويشهد القرآن على صحتها، بل ويدعونا إلى الرجوع إليها والأخذ بها إن ثبت عدم مخالفتها للقرآن، وذلك ما أجازه لنا نبيُّنا الأكرم، ومن تلك الأمور الصحيحة النبوءات الكثيرة التي بشَّرت بمقدم النبي الخاتم الأعظم صلى الله عليه وسلم، والتي أشار إليها القرآن، وما زالت موجودةً إلى يومنا هذا، تُقرِّع آذان اليهود والنصارى، فتقلقهم وتؤرِّقهم وتقضُّ مضاجعهم، واضعةً سيف الحجة والبرهان على أعناقهم المغلولة بالشهوات والأهواء. ومن تلك الأخبار والنبوءات الصحيحة هذا النبأ الذي أوردناه عن مجيء مثيل المسيح في الزمن الأخير، إذ لا يُتصوَّر أن هذا النص قد طالته يد التحريف، حيث لا دافع ولا مسوِّغ لأحدٍ من أهل الكتاب يدعوه لمثل هذا التحريف الذي لا يخدم عقيدة اليهود أو النصارى بحالٍ من الأحوال، بل هو يخالف عقائدهم وأمانيَّهم جملةً وتفصيلاً.
16- إن اعتقاد صعود شخصٍ إلى السماء، ومكوثه وغيبته فيها، ليعود مُخلَّصاً جباراً، ناصراً لأتباعه بالسيف والنار في آخر الزمان، إنما هو صفةٌ مشتركةٌ عند كل المحبطين اليائسين العاجزين، والمنحرفين الضالين، عن صراط الله المستقيم، فهناك بعض الشيعة الذين يعتقدون بصعود عليٍّ رضي الله عنه إلى السماء، وكثيرٌ منهم يؤمنون بغيبة إمامهم الطويلة في السرداب، ومكوثه حياً آلاف السنين، ليعود مخلًّصاً سفاكاً، واليهود يعتقدون بصعود إيليا إلى السماء وبعودته في آخر الزمان، وكذلك النصارى يؤمنون بصعود المسيح إلى السماء، وبعودته في آخر الزمان مُخلِّصاً، وكذلك لو رحت تُفتش وتسأل أصحاب الأديان الأخرى المنحرفة، لوجدت القضية نفسها، والاعتقاد ذاته في أنبيائهم وزعمائهم الروحيين. وهذا ما انتقده ورفضه المسيح ابن مريم يوم بُعث إلى بني إسرائيل، حيث كان اليهود ينتظرون نزول إيليا من السماء، فأنكر المسيح قولهم بصعود إيليا إلى السماء، وقال لهم: " وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ " (يوحنا3 :13)، كما بيَّن لهم أن المقصود بنزول إيليا من السماء، هو بعثة رجلٍ فيهم ومنهم يشابه إيليا ويماثله، فقال مشيراً إلى نبي الله يحيى: " وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي " (متى 11 : 14). وإن صراط الله المستقيم وسنته الدائمة، تقضي بحكمته ورحمته في زمن انتشار الظلم والظلمات، بإنزال الوحي والنور على قلب رجلٍ طاهرٍ يصطفيه الله بمشيئته من أهل القرى، ليبعثه مبشراً ونذيراً، ومصلحاً يُجدد الدين، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.