هنالك اعتقاد شائع خاطئ حول المباهلة، مضمونه أن المباهلة إنما شُرّعت لتكون وسيلة لإظهار صحة عقيدة مقابل أخرى؛ حيث يُظن أن صاحب المعتقد الصحيح سينتصر حتما، حتى وإن كان كذابا مسرفا غارقا في الذنوب، وأن صاحب العقيدة الفاسدة سيعاقب على فساد عقيدته، لا على نيته وعمله وسلوكه.
هذا الخطأ ناجم عن الجهل بأن العقيدة الفاسدة لا يعاقب الله عليها في الدنيا، وإنما هنالك عاقبة للأعمال السيئة في الدنيا، وقد يعاقب الله في الدنيا على بعضها؛ خاصة إذا كان هذا العمل السيئ فيه ظلم كبير للآخرين، أو أراد المجرم أن يُشهد الله عليه ويجعله شريكا فيه. هذا إلى جانب العقوبة في الآخرة.
إن من سنة الله إجمالا أنه يرتب النتائج على الأعمال تلقائيا؛ وهذه النتائج منها ما هو آني ومنها ما هو متراكم يظهر في الدنيا يوما ما، إضافة إلى أنه سيرى نتيجة أعماله بصورة متراكمة في الآخرة. وهذا هو مضمون معنى الآية: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة 4). وما المباهلة إلا دعاء بتعجيل العذاب المترتب على الكذب والآثام والسيئات التي يقوم بها الفريق الكاذب وتوقيته، بحيث يصبح آية للصادق.
أما فساد العقيدة، التي يُظن خطأ بأن المباهلة تعاقب عليه، فحكمه عند الله تعالى، كما في قوله:
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر 4)
فالذي يتبنى عقيدة كفرية فاسدة يعاقب عليها في الآخرة فقط؛ وهذا إن كان مكذبا ومعتنقا لهذا الفكر عن عمد، أو كان معرضا متعصبا لا يريد أن يسمع الحق كما في قوله تعالى:
{قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (النمل 85)
وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } (السجدة 23)
حيث يؤاخذ الإنسان هنا لأنه لم يعط نفسه الفرصة.
أما إن حاول ولم يهتدِ – وهذا لا يعلم بحقيقته إلا الله – ففي هذه الحالة الافتراضية فقط، فلا يؤاخذ. مع أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتابه حقيقة الوحي قد بيّن أن هذه الحالة الافتراضية شبه مستحيلة، لأن الله تعالى لا بد أن يهدي المكلَّف الباحث عن الحق بصدق ويوصله إلى الإيمان.
ولقد كرر المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتبه وفي مناسبات مختلفة أن الاعتقاد الفاسد لا يستوجب عقاب الله في الدنيا، ولكن الكافر يعاقب في الدنيا على سوء أعماله وعلى كذبه وبهتانه وافترائه. وقد أكد على هذا المبدأ عندما توعد عبد الله آثم بالعذاب الإلهي بعد مناظرة "جنك مقدس"، وقال له إن العقاب سينزل عليه بسبب إساءاته للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بسبب فساد عقيدته التي سيحكم الله فيها في الآخرة.
الخلاصة أن الله تعالى قد أتاح اختلاف العقائد والأديان في هذه الدنيا، ولم يشأ أن يجيح العقائد الفاسدة ويجتثها نصرة للعقيدة الحق. فلو حدث هذا الأمر لأصبحت هذه النصرة آية ملجئة، ولضاع أصل الإيمان الذي ينبغي أن يقوم على الإيمان بالغيب.
ولو أن المباهلة قد جاءت لكي تبيد الأديان والعقائد الفاسدة، وهي تصلح دوما لطرحها أمام صاحب العقيدة الفاسدة لكي يُعاقب في الدنيا ويُجتثّ، فلو صح ذلك، فلماذا لم يدعُ النبي صلى الله عليه وسلم لمباهلة عامة مع كل اليهود النصارى وغيرهم من الأديان ويتركهم يجتثون ويتعذبون بيد الله دفعة واحدة؟!
إنما شُرِّعت المباهلة لتكشف الصادق من الكاذب {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران 62) وتنزل به العذاب؛ ونزول العذاب على هذا الكاذب سيحكم بكذبه وبفساد سلوكه وبالتالي عقيدته. وهذا يحدث عندما يحاجج هذا الكاذب الوقح أهل الحق، ويريد أن يثبت فساد عقيدتهم بأكاذيبه وافتراءاته. فإن تيقن أهل الحق من أن هذا الخصم يصر على الأكاذيب عمدا لتضليل الناس، وكان هذا الشخص ممثلا لجماعة يناصرونه، فبعد أن يسعى أهل الحق إلى إعطائه الفرصة لكي يعلم حقيقة دعواهم، يجوز لهم أن يدعوه للمباهلة.
إن الأولى بالذي يظن نفسه على الحق أن يلتزم بالصدق والحق كاملا نصرة لعقيدته. أما إن لجأ إلى الكذب الصريح، أو قام بنقل الأكاذيب دون تحقق، فهو كذاب متعمد عند الله يستحق العقوبة. ودعوته أو قبوله للمباهلة في هذه الحالة هو خطأ جسيم، يعد جرأة كبيرة على الله تعالى، لا بد أن تثور بها غيرة الله عليه لاجتثاثه.