
أتذكر قصة حصلت معي في الماضي.
كنت أذهب الى مدرسة صغيرة لأتعلم العزف على آلة الكمان. ذات يوم قبل ذهابي الى المدرسة قمت كالعادة بمسح آلة الكمان وتلميعها، فسقطت منها قطعة صغيرة، عود من الخشب، رفيع، عرضه يقارب ثمانية مليمتر وطوله خمسة سنتيمتر .فنظرت إليه ولم أعرف من أين سقط، المهم رأيت أنه ليس ذا قيمة فرميته.
وذهبت إلى المدرسة وكالعادة أخذت آلة الكمان خاصتي وجلست مع التلاميذ، ثم طلب منا الأستاذ أن نقوم جميعا بتسوية آلاتنا على نغمة واحدة. فبمجرد أن لمست بالقوس على أحد أوتار الكمان حتى التفت إلي الأستاذ ونظر إلي نظرة فيها استغراب، وأبدى عدم رضاه بما سمع. وقال ما هذا الصوت الغريب؟!قلت له إني أقوم بتسوية الكمان، لم أنته بعد. قال أنا لا أتكلم عن التسوية، هذا الصوت ليس صوت كمان فلا يمكن أن يستوي هكذا، هناك خطب ما في آلتك!
قال لي هاتها فلما أخذها ونظر في داخلها إلتفت ونظر إلي نظرة استغراب وقال أين روح الكمان؟ فقلت أي روح لا أعرف هذا. قال هناك عود صغير يكون في داخل الكمان أين هو؟! فقلت له: آآآه! العود الصغير لقد وقع منها ولما وجدته ظننت أنه ليس مهما ثم رميته. فقال لي هل رميت روح الكمان يا غبي، وتقول ليس مهما؟ الآن هذا الكمان عندك أصبح مثل علبة القصدير بدون الروح.
فقلت له هل أشتري آخر، وهل ثمنه باهض؟ فضحك... وقال لي هذا العود لا يساوي شيئا، وقد تذهب إلى بائع الآلات الموسيقية لتشتريه وغالبا سيعطيك إياه مجانا، لأن لا قيمة له مادية، ولكن في جوف الكمان يصبح ذا قيمة معنوية كبيرة لأن له دورين أساسيين في إصدار الصوت الجميل للكمان:
الأول أنه منصوبا بين وجه الكمان وبين ظهره ليحمل ضغط الأوتار ويوزعها بين الوجه والظهر بتساوي دقيق، وهذا يحتاج الى محترف لينصب هذا العود (الروح) داخل الكمان، فيجب أن يكون لديه حس فني كبير ليستطيع الإستماع بدقة إلى ردة فعل الآلة ورنين وصدى الأوتار، وحتى يتمكن من وضع الروح في المكان المناسب بكل دقة. وهذا متعب نوعا ما.
والدور الثاني لهذا العود هو أنه عند العزف يمر رنين الصوت من وجه الكمان إلى ظهره ويحدث صدى، وهو ذلك الصوت الجميل العذب الذي تصدره آلة الكمان عند العزف عليها.
انتهى.
المهم ما ذكرني بهذه القصة وما حملني على روايتها،
هو حكمة رأيتها فيها وأحببت مشاركتك بها أخي القارئ.
هناك حدث مهم حصل في هذه الأيام، وهو خروج أحد الإخوة العرب من الجماعة الإسلامية الأحمدية، والذي كان موجودا على منصة المسرح الكبير مع الفرقة العالمية ونخبة من كبار الفنانين العازفين، برئاسة المايسترو الكبير أمير الجماعة المبجل نصره الله.
وكنا نرى هذا الشخص وسط العازفين وكنا نستمتع ليل نهار بالإستماع إلى المقطوعات والسنفونيات الجميلة والراقية. التي تهيم بنا في سموات المتعة والنشوة.
كأننا في الجنة التي بشرنا بها حبيبنا المصطفي صلى الله عليه وسلم، وقال أن في الجنة أوراق الأشجار الطيبة تحركها الريح، فتسمع لها أصواتا جميلة من أحلى ما سمعت الآذان.
ولكن في هيامنا ومتعتنا هذه لم نكن نعلم أن تلك الفرقة التي تصدر كل هذه الأصوات الرائعة كان في وسطها عازف يتعب روادها ويقلقهم بمحاولة خروجه عن الإيقاع المنظم تارة، وتارة يعزف على الوتر الخاطئ، ويصدر منه أصوات مربكة ومنحرفة. ولحسن خلق رواد هذه الفرقة كانوا يسترون عليه لكي لا يسمع جمهور الحاضرين صوت عزفه الرديء. وكانوا ينبهونه إلى ذلك مرارا وتكرارا وبكل حب ومودة، وكذلك كان المايسترو نصره الله يشير إليه وطلب منه أن يتوقف عن العزف ليعطيه فرصة لضبط آلته (روح الكمان) بما ان هنام خطب ما في آلته. لكن كان يرد عليهم بكل عناد ويقول: لا ليس العيب في آلتي بل في المقطوعات والسنفونيات التي كتبها مؤسس الفرقة، وهي غير مقبولة وغير متكاملة وأنتم تعزفون بشكل خاطئ!
ويشرحون له مرة أخرى بكل حب، يا أخي إن -آلة الكمان- عندك لم تعد مستوية راجع ضبط الروح فيها ربما زاغت الروح عن مكانها فأصبحت تصدر صوتا مزعجا، لعلك إذا أصلحتها تفهم وتتفق معنا، أولم تكن منسجما معنا منذ انضمامك إلينا. فكم عزفنا مع بعض من قبل وكم كان عزفنا جميلا ومنسجما، فماذا حدث لك اليوم؟
لكن إستمر بعناده، ويقول: لا بل العيب عندكم وفي المقطوعات!
يا أخي، بالله عليك المقطوعات والسنفونيات يسمعها الجميع ويستمتع بها جمهورنا ما شاء الله، والمايسترو نصره الله ذو خبرة ودراية كبيرة وحس راقي أفضل مننا جميعا، فإن كان يرى ما ترى ما طلب منك الكف عن العزف، ولكننا نراك مصر في الخروج على النظام المتكامل الذي إن لم يكن كذلك لكانت هذه الفرقة تشتت منذ زمن وما كان ليصل صداها وشهرتها الى هذا الحد، وما كان ليكون لها هذا الجمهور الرائع من أصحاب الحس الفني الجميل والذوق الرفيع...
ولكن للأسف الإصرار والعناد أدى بهذا الأخ إلى النزول من أعلى المنصة والخروج من القاعة، ليعزف خارجها على آلته المعطلة التي اصبحت مثل ما وصفها الأستاذ عندما قال لي: "أصبحت آلتك مثل علبة القصدير".
وكان الأخ المسكين يأمل أن يخرج جمهور الأحمديين من القاعة معه بعد أن يسمعوا صوت عزفه المليح كما يتوهم.
ولاكن هل يا ترى أصحاب الحس الفني الجميل والذوق الرفيع سوف يخرجون معه؟ وهل إذا خرجوا متوهمين صوتا جميلا ثم اكتشفوا أنه مع الوقت أصبح مملا، سيبقون خارجها، أم يعودون؟
نحن لا ننكر أن هذا العازف ماهر، ولاكن لاقيمة لمهارته إذا كانت آلته معطلة، كما أن لا قيمة للكمان إذا فقد الروح. ذلك العود الصغير الذي لا نهتم به ولانعطيه قيمة مادية ولكن ندرك جيدا أن لا قيمة للجسد بدون روح، إن الأخ الكريم كان ذا قيمة عندما كان في الفرقة وكان قوي عندما كان في الفرقة وكان مستورا وكان مقبولا وكان مشهورا وكان محسوبا، وكان كل ذلك بسبب بركة الفرقة وليس بسبب مهارته في العزف أو بسبب آلته التي تعطلت، وإذا صح التعبير منذ البداية لم تستوي مع آلات باقي أعضاء الفرقة أو أنه أصلا دخل الفرقة بآلة غير مستوية (لم تكن روح الكمان منصوبة ومستوية في مكانها المناسب).
الان بعد ما قدمه من معزوفات مزعجة وسبب ضجيجا للجمهور، إلى أين سوف يتجه الآن؟ هل سوف يقوم بالتجول في الأسواق ليعزف على كمانه المعطل متسولا آملا أن يعجب أحد بعزفه فيعطيه بعض المدح القراح. وهل سوف يلتف له أصحاب الذوق الرفيع والحس الجميل؟
لا أظن سيلتفت حوله سوى الهمج ممن ضل وانعرج،
وأصحاب الصريخ والصخب والهريج.
وبعدما كان يسمع ما شاء الله، لن يسمع بعد اليوم غير (وجر المعلم جر).
ماذا بعد الأحمدية؟ سؤال مؤرق ومتعب جدا، والجواب عنه عند الأخ الفنان الذي فني في نفي روحه.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.