loader
 

الإسلام والدولة


حقيقة الإسلام ورؤيته ومشروعه

الإسلام هو النسخة النهائية الكاملة من دين الله الحق (الذي كانت بعثة الأنبياء عبر العصور تُظهر جوانب محدودة منه حسب حاجة القوم والزمان والمكان، ولم تكن أديانا مختلفة) والذي أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ليس مشروعا سياسيا أو قوميا جاء لينشئ دولة جديدة أو أمة جديدة بالمفهوم القومي السياسي، وإنما جاء ليعيد الناس ليصبحوا أمة إنسانية واحدة يعرفون الله تعالى خالقهم، ويعرفون ما يترتب عليهم من حقوق واجبة كونهم عبادا له تعالى؛ والتي أساسها أن يقوموا بالعدل الذي يعني إعطاء كل ذي حق حقه، ثم أن يتجاوزوه إلى الإحسان الذي يعني أن يبادروا بالحسنات لمن ليس له حق واجب عندهم، ثم أن يصبح هذا الإحسان بين البشر إحسانا فطريا كإحسان ذوي القربى الذي لا يُرجى منه جزاء ولا شكور، ويعيشون الأمن والسلام ويشيعونه في أرجاء الأرض، فيكونون بذلك خلفاء الله تعالى ووكلاءه الذين ينفذون مشيئته ويحققون الغاية من خلق الإنسان كونهم عبيدا ومأمورين منه تعالى، وبذلك يتقبل الناس سلطان الله تعالى على الأرض بإرادتهم واختيارهم، وبذلك تكون قد تحققت الغاية من خلق البشر. هذه هي فلسفة الإسلام ورؤيته ومشروعه.


دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى الإسلام الحق

وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة بدعوة الناس إلى دين الله الحق؛ إذ كان يدعو إلى أداء الحقوق ورفع الظلم عن المظلومين والحض على الإحسان والرفق ببني البشر والتأكيد على الأخوّة والقرابة الإنسانية والمساواة بين بني البشر، ولم يقدِّم نفسه على أنه يريد تغييرا سياسيا أو أنه صاحب مشروع من هذا القبيل، ولم يقل إن هذه الأهداف تتطلب تغيير الحكم أو إنشاء نظام سياسي جديد، بل كان يؤمن أن هذه الأهداف يمكن أن يحققها المرء حيثما كان وفي نطاق مسؤوليته مهما كانت محدودة، وإن فعل ذلك فهو قد طبَّق الإسلام وشريعته وكان مسلما صالحا، ولن يضيره حال المجتمع أو نظامه السياسي أو الاجتماعي، ويفترض ألا يمنعه النظام من ذلك، لأن العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى يؤدي إلى السلام ولا يريد غصب أحد حقه. فلم يكن الإسلام دعوى تريد تغييرا إلا على نطاق التغيير الإرادي من الظلم وهضم الحقوق إلى الإحسان؛ بجعل صاحب المسئولية راغبا في هذا وقائما به طاعة لأمر الله تعالى وراجيا جزاءه الذي أوَّله أن يعيش حياة هانئة طيبة مطمئنة على هذه الدنيا، وألا يبالي بالخسائر أحيانا إن تطلب الأمر لأن الثواب الحقيقي والجزاء الأوفى سيكون في الحياة الآخرة.


هل يتطلب الإسلام الصدام مع النظم السياسية والاجتماعية؟

هذه الدعوى، رغم أنها ليست صدامية، إلا أن المجتمع والنظم السياسية في ذلك الوقت هي التي تصادمت بها؛ إذ أن أكثر النظم تقوم على هضم الحقوق وحصول فئة من الناس على مصالح وامتيازات على حساب مظلومين مقهورين مسحوقين، فأداء الحقوق شكَّل بالنسبة لهم دعوة مستفزَّة عنت أن نظمهم لا بد أن تتفكك وتنهار فتنهار معها مصالحهم وامتيازاتهم، لذلك سعوا إلى القضاء على الإسلام، وأرادوا اجتثاثه. فمسئولية الصدام تقع على عاتقهم؛ إذ أن الإسلام لا يسعى إلى الصدام ولا إلى تغيير النظم ولا الاستيلاء على الحكم، بل كل ما يريده هو أن يتحوَّل الناس إلى محسنين بإرادتهم، ولكن المجرمين الرافضين لذلك رأوا أن تحولهم إلى الإحسان خسارة، وتحوَّل غالبية الناس إلى هذه الفكرة يعني نهايتهم. فالمشكلة الحقيقية هي في بنية أنظمتهم القائمة على الظلم وهضم الحقوق، لذلك هم من أرادوا العدوان ومارسوه. بينما كان يمكن أن يختاروا عدم الصدام ويتقبلوا أن يمارس الناس العدل والإحسان، وكان يمكن أن يبقوا انظمتهم قائمة بالتخلي عن الظلم وقبول هذه المبادئ، ولكن إصرارهم على الصدام لم يكن في الواقع إلا إصرارا على الظلم.

وبالنظر إلى ما حدث على أرض الواقع، هو أنه قد حدث تغيير وسقطت النظم التي كانت قائمة على الظلم بعد اصطدامها بالمسلمين، واستُبدلت بنظم جديدة قائمة على العدل والإحسان، وهذا مرجعه ببساطة إلى أن تلك النظم قد أصرَّت على أن يكون الظلم أساس حكمها، ومارست العدوان للحفاظ على نفسها، ولم تكن تفهم أنها لو تقبّلت هذا التغيير فإن قوانين الأرض وإرادة السماء التي وعدت بذلك ستديم نظامهم وحكمهم، ولن يخسروا شيئا، بل سينالون كل شيء في نهاية المطاف.


كان لا بد أن يُظهر النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الحاكم والمحكوم

ومع أن الإسلام لم يكن يطمح لإنشاء دولة، ولم يسعَ للصدام مع تلك النظم، سواء في الجزيرة العربية ثم الدول العظمى في ذلك الوقت، إلا أنه كان من الضروري أن تنشأ هذه الدولة أيضا، ولكن ليس لأنها حاجةٌ ملحّة للإسلام أو أن الإسلام يتطلَّب نشوءها لكي يتم تطبيقه وإقامة شريعته، بل لأنه كان لا بد أن تظهر الأسوة الحسنة في الحاكمية وأن يطبقها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، كونه قد جاء بالشريعة الكاملة التي ترشد المسلم بل والإنسانية جمعاء إلى ما يجب عليهم في أي موضع أو حالة يعيشها الإنسان. والواقع أنه صلى الله عليه وسلم قد قدَّم الأسوة من قبل هو وصحابته فيما ينبغي أن يقوم به المواطن تحت نظام ظالم وكيف يتصرفون تحت الاضطهاد، وقد قدَّم مثالا رائعا للصبر والعزيمة والالتزام بالمبادئ، إذ لم يلجأ إلى الثورة والانقلاب والأعمال التخريبية بحجة الاضطهاد، بل أمر بالهجرة ثم هاجر صلى الله عليه وسلم بنفسه أيضا في نهاية المطاف. ولكن الظالمين لم يتركوه، فتحركوا للعدوان عليه وعلى مجتمعه الجديد وأرادوا القضاء عليه، فكانت نتيجة الصدام سقوطهم هم.
 

طبيعة نظام دولة النبي صلى الله عليه وسلم وهل هي قابلة للتطبيق أو الاستمرار في هذا الوقت؟

وقد عاين العالم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم نظاما سياسيا لم يكن له مثيل من قبل. فرأس الدولة لم يكن مجرَّد حاكم، بل كان النبي الذي يؤمن به غالبية مواطنيه، ويطيعونه طاعة كاملة، ويسلِّمون له زمام أمورهم بكل رضى مطمئنين بأنه سيتخذ القرار الأنسب. وكان رغم رفقه وإحسانه وعدم تسلطه، مطلق الصلاحيات، لا ينازعه فيها أحد، وكان التزام المواطنين المؤمنين بالطاعة الكاملة التي كانوا يرونها عبادة هو العنصر الثاني الآخر لنجاح هذا النظام. وقد استمر هذا النظام في زمن الخلفاء الراشدين إلى منتصف عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان الصحابة يعطون الصلاحيات نفسها للخليفة ويرضون حكمه كما كانوا يرضون حكم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بدأت الظروف تتغير.


ما الذي تغيَّر واقتضى أن يتغير نظام الحكم معه؟

الذي تغيَّر في عصر عثمان رضي الله عنه هو أن غالبية المواطنين من المسلمين لم يكونوا من الصحابة؛ إذ أصبح الصحابة قلة قليلة، بل كان أكثر المواطنين من غير المسلمين. فالمسلمون لم يكونوا على ذلك المستوى من التربية والإيمان لكي يسلِّموا للخليفة بتلك الصلاحيات التي ورثها عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتقبلها الصحابة، وبدأوا يرون أن لهم الحق في السلطة أو في مناقشة صلاحيات الخليفة، فحدثت الفتنة التي أدت في النهاية إلى انتهاء عهد الخلافة الراشدة. والواقع أن هذه الفتنة لم تجهض المشروع الإسلامي الذي كان لا بد أن يستمر في صورة الخلافة وتقضي عليه، بل كان انتهاء عهد الخلافة الراشدة الحاكمة أمرا ضروريا لمواكبة التغيير الذي حدث في المجتمع؛ إذ أن الخلافة لا تقوم إلا على المؤمنين الذين يعملون الصالحات الذين يقدِّرونها ويطيعونها طاعة كاملة، وهذا برز في أكمل صوره في عصر الصحابة، أما إذا تغيَّر الوضع وأصبح الغالبية ليسوا على مستوى الصحابة فصار واجبا أن يتغير نظام الحكم ويتحوَّل إلى ملكية عادلة تستهدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتسعى لذلك، وهذا ما كان. وصحيح أن العالم قد خسر هذه الخلافة وعصرها، ولكن لم تكن هذه الخلافة لتستمر أصلا لارتباطها بالحكم، بل كان الهدف من عصر حاكميتها أن يرى الناس تطبيق الصحابة للحكم العادل الرشيد وللمواطنة الصالحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكي تزول أي شبهة من ذهن من قد يظن بأن عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان عصرا خاصا لا يمكن الاقتداء به، ولم يكن ممكنا أن ينفِّذ الصحابة أحكام الإسلام وتعاليمه ويقتدوا بأسوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فثبت أن الخلافة قد بددت هذه الشبهة وأثبتت العكس.


خطأ القائلين بأن الإسلام يريد إنشاء دولة وأن نهضة الإسلام اليوم مرتبطة بها

أما الآن، ومع تغيُّر الظروف والأوضاع، فإن تطبيق الإسلام والتديُّن به والعمل على تحقيق العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى أصبح لا يشكل صداما مع الدول والنظم السياسية – التي وإن بقيت تفكر في مصالحها على حساب الآخرين إلا أنها لم تعد ترى في الدعوة إلى العدل أو الإحسان أو ممارسته ما يشكل خطرا عليها – وأصبح من يريد تطبيق الإسلام على نفسه وفي نطاقه، على الصورة الأصلية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، يقدر على ذلك بكل سهولة. وبذلك فإن هذا الوقت هو وقت مثالي لنشر الإسلام، ما دامت النظم عموما لم تختر الصدام مع الإسلام، أو لم تعد ترى فيه خطرا عليها، بغض النظر عما وراء موقفها هذا، والذي في الغالب ناجم عن الاستهانة بالدين وأثره في التغيير في العالم حاليا. ولكن مهما يكن، فإن الظروف الآن عموما مؤاتية لكي يعمل المسلمون بكل حرية.

وبهذا فإن هذا العصر من جانب المسلمين يمكن تشبيهه بالعهد المكي – الذي كان عهدا لا يريد نزاعا ولا صداما وليس مضطرا له- مع فارق أن المكيين اليوم لا يريدون الصدام معهم.


الصراع والصدام في الفكر الإسلامي المعاصر


ومع شديد الأسف، يمكن القول إن الفكر الإسلامي المعاصر -عدا الجماعة الإسلامية الأحمدية التي تؤمن بالإسلام الأصيل وتمارسه فكرا ومنهجا – يؤمن بالصراع والصدام وتغيير الأوضاع بالقوة، ظنا منه أن الإسلام لا يقوم إلا بقيام الدولة التي إقامتها واجب لكي يتمكن الناس من تطبيق الإسلام وشريعته، وأن من واجب الإسلام الصدام مع النظم غير الإسلامية وإسقاطها لكي يحل محلها. ومع أن هذا ما تصرِّح به بعض الحركات الإسلامية إلا أن مدارس الفكر الإسلامي جميعها على اختلاف أطيافها يؤمنون حقيقة بأن التغيير لا يكون إلا بإقامة الدولة الإسلامية المتخيلة. وقد بينَّا سابقا أن تصورهم للدولة وقيامها وضرورتها إنما هو تصوُّر خاطئ، وهذه الدولة التي يرأسها خليفة من خيالهم، إن قامت جدلا، لا يمكن أن يتقبلها الشعب والمجتمع، لأنهم لن يقبلوا بحاكم مطلق الصلاحيات من ناحية، ثم من الخطر تسليم حاكم هذه الصلاحيات المطلقة؛ لأنه متى ثبت للناس أنه تقي عادل لا يمكن أن يساورهم شك في عدله وتقواه؟ ومن قال إن الواجب أن نؤمن بالحاكم ونعتبره ملهما دوما؟ الفارق هو أن الإسلام عند نشأته كان المسلمون يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم سلموه زمام حكمهم بكل حب وسرور ثانيا، ثم آمنوا بالخلفاء الراشدين من بعده وأعطوهم نفس الصلاحيات، أما بعد ذلك، فلا بد أن يكون الحكم عقدا سياسيا اجتماعيا بين الحاكم والمحكوم قائما على العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فأي نظام يقيم العدل ويعمل على الإحسان لمواطنيه وللبشرية إنما هو النظام الإسلامي الذي يرتضيه الإسلام ويتقبله، والذي يمكن للمسلم أن يعيش فيه بكل حرية ويسانده، ويمكن لكل إنسان أن يعيش فيه بحرية وسعادة وطمأنينة. 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة