loader
 

السؤال: فى اعتقادنا كاحمديين ان معنى الصلب من مات صلبا ونستشهد بان الغريق من مات غرقا...فكيف نفسر حادثه نجاة فرعون ببدنه على ان الله قد نجى فرعون بجسده فعلا ليجعله يحيا مذموما مدحورا ويكون عبره لغيره..مع ان العديد من الايات تذكر كلمة الغرق فى هذه الحادثه.. فكيف يصح استدلالنا الاول بان الغريق من مات غرقا؟

المعنى السياقي للَّفظة هو الذي يُقدَّم على المعنى القاموسي لها؛ ذلك أن في الاقتصار على المعنى القاموسي عددًا من الإشكالات التي تسبِّب الخلاف؛ منها تعدد المعاني في القواميس نفسها، ومنها ظاهرة الحقيقة والمجاز، وفيما إذا قُصد المعنى الحقيقي أم المجازي للفظة، ومنها ظاهرة التخصيص والتعميم، وفيما إذا أُريد المعنى الخاص من لفظة عامة أم المعنى العام. فالمعنى السياقي يُغنينا عن هذه الإشكالات ويكاد يقضي على الخلاف في المعنى المقصود.
فسواء كان الصلب يعني الموت على الصليب، أو كان يعني معنيين: أحدهما الموت على الصليب والثاني هو مجرد التعليق عليه، فإنّ سياق هذه الآية يرفض معنى التعليق، ذلك أن هذه الآية جاءت في هذا السياق: {وَبِكُفْرِهِمْ (اليهود) وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (157) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء).. فاليهود يقولون إنهم قتلوا المسيح، والله تعالى يفنّد زعمهم ويقول: (شُبِّهَ لَهُمْ). فلا يمكن أن يكون المقصود أنه لم يُعلَّق على الصليب، لأن هذا ليس ادعاءهم، والقول بعدم التعليق ليس نقضًا لقولهم.. أي أنهم لم يدّعوا أنهم قاموا بمجرد وضع المسيح على الصليب، كما أنّ الآية لم تأتِ لنقض هذا الادعاء.. بل ادّعوا أنهم قتلوا المسيح على الصليب، والآية جاءت تنفي هذا الادعاء، أي القتل على الصليب. والآية تشرح الذي حدث، وهو أن مسألة القتل على الصليب قد شُبِّهت لهم. وهذا يعني أنه عُلّق على الصليب قطعًا، وإلا كيف يشبّه لهم القتل على الصليب من دون التعليق عليه؟
لذا فسواء كان معنى الصلب لغةً هو مجرد التعليق، أم لم يكن يعني إلا الموت على الصليب فالنتيجة هي هي. ولا داعي للتوقف طويلا عند هذا.
فالقضية تُحلّ لغويا من أكثر من باب؛ أهمها باب العام والخاص؛ فاللفظ العام يُطلق أحيانا ويراد به فئة خاصة منه، وهذا يحدده السياق. فعلى فرض أنّ الصلب يعني مجرد التعليق على الصليب سواء تحقق الموت أم لم يتحقق، فإنّه قد أريد بالصلب في الآية المعنى الخاص لها، وهو الموت على الصليب، أو ذلك التعليق الذي يؤدي إلى الموت، وليس كل تعليق. فالسياق هنا قاضٍ على القاموس ومهيمن عليه، والمتلقي بحاجة إلى السياق أكثر من حاجته إلى القاموس.
وحتى لو ادّعى أحدٌ أن الصلب لا يعني إلا التعليق على الصليب فقط، قلنا له: عنادك يمكن أن يُحَلّ لغويا من باب الحقيقة والمجاز، فالمعنى الوحيد الذي في ذهنك للفظة هو الحقيقة، ولكن السياق يمنع من الحمل على هذه الحقيقة، بل لا بد أن يكون المقصود هو المعنى المجازي، وهو الموت على الصليب، لأن السياق يتحدث عن القتل على الصليب، حيث يردّ على اليهود الذين قالوا بذلك.
بيد أني لا أظنُّ أحدا يدّعي هذا. المهم هو التأصيل لقضية الاهتمام بالسياق حتى تُردم معظم فجوة الخلافات بين الجميع.
أما قصة غرق فرعون ومن معه فلا شك أن هناك آيات قرآنية تتحدث عن غرق قوم فرعون جميعا، مثل قوله تعالى{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الزخرف 56).. مع أنهم لم يغرقوا جميعا، بل بقي مئات الآلاف منهم في مصر ولم يلحقوا بموسى ومن معه، لذا لا بد أن يكون المقصود بالغرق هنا الغرق مجازا.. فما الذي يمنع مِن حَمْل الغرق على كبار صناديدهم مجازا؟ أو على مركباتهم مجازا؟ أو أن القوم كلَّه كان بين غريق في البحر وبين غريق "حزنا وكَمَدا" على هذه الكارثة التاريخية؟ أو يمكن حملها على المبالغة، حيث كان الجيش عن بكرة أبيه تعرّض لموت أو أذى شديد يمكن تسميته بالغرق الجماعي.
كما أنه ليس هنالك ما يمنع من حمل كلمة الغرق على معنى السقوط في الماء، سواء حدث موت أم لم يحدث. فحتى لو ظلّ خلاف في معنى كلمة فينبغي أن يصل الجميع إلى معنى عامّ موحد بعد النظر في السياق بتأنٍّ.


 

خطب الجمعة الأخيرة