loader
 

السؤال: السلام عليكم و رحمة الله وبركاته وددت فقط من حضراتكم شرح موجز لأسباب النزول والأهم من ذلك كيفية نقضها. و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسباب النزول هي أحداث صادفت نزول القرآن الكريم وعالجها وتطرق إليها بحيث كان يبدو القرآن وكأنه نزل لعصر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه ميزة فريدة في القرآن الكريم الذي كان نزل بترتيب زمني كان يتفاعل فيه مع الواقع ويغطيه تغطية شاملة. وهذا ما شعره الصحابة وعاشوه وما شهد به خصوم الإسلام أيضا.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بترتيب القرآن الكريم وفقا للترتيب النهائي ليصبح كتابا، ولم يُرتَّب القرآن وفقا لترتيب نزوله، وهذا يؤكد أن مصادفته لهذه الأحداث إنما كان وجها واحدا للمعاني محصورا بذلك الوقت، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الترتيب النهائي سيعمل على تغطية معاني أخرى واحتياجات وفقا لكل عصر تستمر إلى قيام الساعة.
والمشاكل في أسباب النزول هو أن فيها اختلافات كثيرة؛ فترى حول بعض الآيات عدة
أقوال. كذلك فإن البعض يقصرون المعنى على الحادثة التي يرون أن الآية قد نزلت
بشأنها، هذا إضافة إلى أن فيها إساءات وخرافات أحيانا وأمورا لا تصح تخالف تعاليم القرآن الكريم.
ولا حاجة لنقض أسباب النزول، بل يمكن الاستفادة منها كثيرا للاقتراب من الفهم العام وفي بيان بعض الأحداث وترتيبها وغير ذلك من الفوائد.. المهم ألا نسيء التعامل معها ونقيد بها معاني الآيات أو نقبل الإساءات والخرافات والأمور المخالفة لتعاليم القرآن الكريم.
لذلك ينبغي أن نؤمن بأسباب النزول إيمانا إجماليا - كونه بالفعل كان يصادف مناسبات وإن لم تُحفظ هذه المناسبات لعدم أهميتها- ولا بأس أن نتناول بعضها بعد عرضها على القرآن والحكم عليها به، ولكن من الخطأ أن نحكم على القرآن بهذه المرويات التي أكثرها ضعيف، وأن نقيد عموم النص القرآني الذي هو الغاية النهائية من النزول.

وفيما يلي اقتباس من التفسير الكبير للخليفة الثاني رضي الله عنه لمزيد من الإيضاح:

فبعد أن أورد الخليفة الثاني رضي الله عنه عددا من الروايات حول سبب نزول سورة الماعون، وعلّق عليها بقوله أن هذه الروايات لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أنها سبب نزول هذه الآية أو تلك ، بل هي أراء، قال حضرته: " غير أن الروايات الواردة في شأن نزول هذه الآية ذاتُ قيمة حتمًا من منظور آخر، إذ قد اتضح منها جليًا أن سبب نزول آيةٍ من الآيات لا يعني أنها نزلت في ذلك الشخص أو في ذلك الحادث فعلاً، إنما المراد أن مضمونها ينطبق على ذلك الشخص أو الحادث أيضا... ليس السبيل إلى تأويل هذه الروايات إلا أن نقول إنهم لم يعنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إن الله أخبرني أن هذه السورة نزلت في فلان، بل كان مرادهم أنها تنطبق على فلان تمامًا بالنظر إلى أحواله حسب رأيهم.
فمن الخطأ الفاحش تحديد معنى آية في حادث خاص بناءً على رواية تذكر سبب نزولها، لأن هذا بمثابة محاولة فاشلة لحصر بحر القرآن الكريم في كوب.
ن علماء المسلمين المعاصرين عمومًا مصابون بهذا المرض خاصة، فلو قرأتَ عليهم آية قرآنية وقلتَ بأنه يُستنتج منها مفهوم كذا، لردّوا عليك فورًا: كيف تكون لهذه الآية علاقةٌ بنا! إن سبب نزولها كذا وكذا وإنها نزلت في فلان. فكما أن القارب يُربَط بشجرة أو خشبة فلا يتحرك، كذلك يربط هؤلاء آية أو سورة ما بمنافق أو مؤمن أو مهاجر أو أنصاري أو مسيحي أو يهودي ويقصرونها عليه، مع أن القرآن الكريم لم ينـزل لشخص معين، بل نزل للناس أجمعين. إن القرآن يخاطب محمدا صلى الله عليه وسلم والمسلمين والنصارى واليهود والمجوس وغيرهم كلهم، بل يخاطب البشر إلى يوم القيامة. فمن الخطأ الفاحش حصر آية أو سورة منه بزيد أو بعمرو، بل لا أرى جائزا أن نعتبر القرآن خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم. لو خاطب القرآنُ النبي صلى الله عليه وسلم وحده في آية لما انتفع منها باقي العالم، مع أن القرآن نزل لخير البشرية جمعاء إلى يوم القيامة. فمثلاً إذا كان الله تعالى قد خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ[، فهل يعني هذا ألا يتدبر في هذا الحادث إلا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إني لا أرى مبررًا لتخصيص سبب نزول آية أو سورة بالرسول r فقط، فضلاً عن أن نقول إنها نزلت في فلان من المنافقين أو المؤمنين أو الكافرين.... (التفسير الكبير، المجلد العاشر، تفسير سورة الماعون)
تميم أبو دقة


 

خطب الجمعة الأخيرة