loader
 

السؤال: الأخ الكريم تميم، السلام عليكم ورحمة الله، قال تعالى:وان من اهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا، فهل كلمة ليؤمنن تساوي كلمة آمنوا ...تفاسير السلف تقول أن أهل الكتاب سيؤمنوا بعيسى عليه السلام حين يهبط من السماء في أخر الزمان والدليل هو هذه الآية فما ردكم وشكراً.

سأورد أولا الآية الكريمة مع الآيات التي سبقتها من سورة النساء وهي كالتالي:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (158) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (159) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (160)

لا بد من الانتباه إلى أن صيغة الآية تفيد الحصر والتوكيد بسبب أداة الحصر "إلا" وبسبب نون التوكيد الثقيلة في "ليؤمنن". وهذا يعني اشتراك كل المحصورين حتما في الإيمان في أمر قبل حدوث وفاة أحد ما.
ولربما نشأ الإرباك في تفسير هذه الآية لظن البعض أن صيغة الآية تفيد الاستقبال ولا تفيد الحال بسبب اقترانها بنون التوكيد الثقيلة. ولكن هذا ليس صحيحا، حيث إن الصيغة تفيد الحال (الحاضر) أيضا، ولا يمكن حصرها لتفيد الاستقبال فقط. وهذه هي الصفة العامة للفعل المضارع الذي يفيد الحال والاستقبال عموما.
وللوصول إلى التفسير الصحيح لا بد من الانتباه إلى المفاتيح الهامة التالية: الأول الاسم المضمر في "وإن من أهل الكتاب", والثاني الهاء الضمير المتصل في "به"، والثالث الهاء الضمير المتصل في "موته". هذه المفاتيح ستكشف وجوه التفسير ومن ثم نرى ما هو مقبول منها وما هو غير مقبول.

الوجه الأول:
بفرض ما يلي:
الاسم المضمر هو "أحد"
الهاء الثانية تعود على المسيح
الهاء الثالثة تعود على المسيح أيضا
وهكذا يكون المعنى أن كل واحد من أهل الكتاب سيؤمن بالمسيح قبل موته، وهذا هو الوجه الذي قالت به معظم التفاسير التقليدية وظنت أن هذا الحدث سيحدث عند نزوله من السماء!
ولكن بفرض صحة حادثة النزول من السماء جدلا، فإن الآية توجب أن يكون جميع أهل الكتاب من السابقين واللاحقين حاضرين لكي يؤمنوا به عن بكرة أبيهم! وهذا غير معقول. أما قول البعض أن المقصود هم المعاصرون للمسيح في ذلك الوقت فهذا غير مقبول أيضا، لأن هذا يلزم ألا يبقى يهودي ولا نصراني على دينه في ذلك الوقت. وهناك عدد من الأدلة التي تثبت أن اليهود والنصارى سيبقون إلى يوم القيامة، ولا حاجة للخوض فيها الآن في هذه العجالة، حيث من السهل استخراجها من القرآن الكريم.
لذا فإن هذا الوجه غير مقبول لتناقضه مع حقيقة بقاء اليهود والنصارى إلى يقوم القيامة بنص القرآن، ولأنه مبني على خيال انتهاء اليهودية والنصرانية وإيمان كل أفرادها بنزول المسيح أو بعودته.

الوجه الثاني:
الاسم المضمر هو "أحد"
الهاء الثانية تعود على المسيح
والثالثة تعود على الكتابي
وهكذا يكون المعنى أن كل واحد من أهل الكتاب سوف يؤمن بالمسيح قبل موت الكتابي. وقد ذهب بعض المفسرين إلى هذا المعنى وظنوا أن هذه الحالة تحدث في النزع الأخير عندما يقر الكتابي بالحقيقة ويندم على عدم إيمانه بما جاء به المسيح حقا. ولكن هذا الوجه يفترض أن كل أهل الكتاب يعرفون الحق ويجحدون، وهذا غير صحيح وغير معقول، إذ أن معظمهم يظنون أنهم على الحق.
والبعض قالوا إن الحقيقة سوف تكشف للكتابي فيؤمن بالمسيح حقا قبل أن يموت وهذا عندما يكون الكتابي في النزع الأخير. ولكن القرآن في بعض المواضع قد بين أنه لا إيمان في تلك المرحلة حتى لو أقر الإنسان بالحقيقة. كما أنها لو كشفت له فهذا ليس إيمانا على كل حال بل هو شهادة الحق ورؤيته التي لا تعتبر إيمانا إيضا.
وهكذا فأن هذا الوجه بكل احتمالاته غير مقبول أيضا.

الوجه الثالث:
الاسم المضمر هو "أحد"
الهاء الثانية تعود على الرسول صلى الله عليه وسلم
الثالثة تعود على الكتابي
وهذا الوجه لا يختلف كثيرا عن الوجه الثاني. وهو من الوجوه التقليدية للتفسير. وهو غير مقبول أيضا.

الوجه الرابع:
الاسم المضمر هو "أحد"
الهاء الثانية تعود على أمر القتل والصلب
الثالثة تعود على الكتابي
يدعم هذا الوجه أنه قد ورد في الآيات السابقة "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" أي شبه لهم القتل والصلب. ثم تتابع الآيات وتقول: "وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه" وهنا يجوز القول أن الضمائر تعود على المسيح وعلى أمر القتل والصلب أيضا، ثم تتابع الآيات استخدام تلك الضمائر حتى تدخل هذه الآية التي تتحدث عن أمر القتل والصلب حصرا على ما يبدو، وهو الأمر الذي يؤمن به كل أهل الكتاب من يهود ونصارى. فالآية تقول أن كل أهل الكتاب يؤمنون بمسألة القتل والصلب إلى أن يموتوا فيعرفوا الحقيقة بعدها. وهذا الأمر يحصرهم جميعا ولا يخرج عنه فرد واحد منهم. وفي الحقيقة هذه هي المسألة التي يجتمع فيها اليهود والنصارى قاطبة وهي جزء من إيمانهم. فكل اليهود يؤمنون أن المسيح المدعي في زعمهم قد قتل وصلب، وكذلك النصارى يقولون أنه قتل وصلب أيضا وإن كان ذلك لفداء البشرية من الخطيئة المزعومة!
ويدعم أن الضمير في "موته" يعود على الكتابي أن الكلمة وردت في قراءة أُبيّ التفسيرية على شكل "موتهم" (والقرآت التفسيرية لا تعتبر قرآنا ولا يصح التعبد بها ولا تلاوتها في الصلوات، وإنما هي توجه نحو معانٍ قوية وتنبه لها). أي أن كل أهل الكتاب سيطلعون على الحقيقة بعد موتهم، أما قبل الموت فهم يظنون أن المسيح قد قتل وصلب.
وهذا هو الوجه الصحيح على ما أرى والذي يتواءم مع السياق ومع صيغ الأفعال والضمائر بشكل متكامل.

هذا وهنالك وجوه أخرى تقوم على اعتبار الاسم المضمر تقديره "فرقة" أو "فئة" أو "طائفة" وهذا لكي تصلح الآية للدلالة على الاستقبال أيضا والخروج من إشكالية حصر جميع أهل الكتاب سواء جميعهم في كل الأوقات أو جميع المعاصرين. ولكني لا أرى صحة هذه الوجوه، فهي ستواجه مشكلات متعددة تجعلها أبعد عن القبول. ويمكن أن يتدبر فيها من رغب بذلك، ولكن لا حاجة لمناقشتها هنا لتجنب الإطالة.

تميم أبو دقة


 

خطب الجمعة الأخيرة