الله تعالى هو الخالق والرازق والمعلم والهادي والحافظ وكل شيء في حياتنا هو من فعل الله تبارك وتعالى، أما الخير والشر فهو بيد الإنسان لأن الله تعالى هداه النجدين أي الخيار بين الأمرين، فإذا اختار الْإِنسَانُ التوكل على الله تعالى في كل أموره كان الله تعالى حافظه من الزلل، وهذا يشبه العصمة الصغرى، أو أن يختار الْإِنسَانُ الاعتماد على نفسه وعدم التوكل على الله تعالى في أموره فيتركه الله تعالى لها دون أن يفرض عليه شيء، فالحفظ الإلهي بمقدار التوكل على الله ﷻ. ومن كرم الله تعالى وسابق رحمته أن الذي يأتيه مشياً فسيأتيه الله تعالى هرولة، كما في الحديث القدسي بمعنى أن الله تعالى يسبق العبد الذي يسعى إليه.
ولتفصيل هذا الموضوع بأجمل وأوجز صورة، يشرح مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هذه العلاقة والتأثير الكامل لله تبارك وتعالى على خلقه بحسب قابلياتهم الروحية بتمثيل جميل للغاية، فيقول حضرته:
"لا بُدَّ من البيان ... أنَّ اللهَ -الذي هو عِلّةُ العِلل، وبوجوده ترتبط سلسلة جميع الموجودات- حين يتحرك إراديًا لإحداث أمر ما، سواء بصفته المربّي أو بصفته القاهر، يصبح التحرك إذا كان بصورة أتمّ وأكمل؛ شرطاً لا غنى عنه لجميع المخلوقات. أما إذا كان تحركًا جزئيا؛ فيحدث التفاعل في بعض أجزاء العالَم بحسبه.
الْحَقُّ أن مَثَل علاقة المخلوقات والعوالم مع الله ﷻ كمثل علاقة الجسم مع الروح. فكما أن جميع أعضاء الجسم تتبع مشيئة الروح وتميل حيثما مالت؛ كذلك الحال بالنسبة إلى العلاقة بين الله وخلقه. لا أقول في حقِّ الله ﷻ واجبِ الوجود كما قال صاحب كتاب "فصوص الحِكَم": "خلق الأشياءَ وهو عينها"، بل أقولُ: "خَلَقَ الأشياءَ وهو كعينها".
... لقد كشفَ عليَّ الحكيمُ مُطلَقُ الحكمةِ هذا السرَّ المكنون؛ أنَّ هذا العالَم كله مع جميع أجزائه؛ ليس قائماً بنفسه بل هو كالأعضاء من أجل تنفيذ أفعال (الله)، عِلّة العِلل وإراداتِه، ويستمد القوّة كل حين من ذلك الروح الأعظم. كما أن جميع قوى الجسم قائمة بسبب الروح فيه، كذلك إنَّ بعض الأشياء في هذا العالَم -الذي هو بمنـزلة الأعضاء لذلك الروح الأعظم- إنما هي بمنـزلة نور وجهه ﷻ وتفيد كالنور ظاهرًا أو باطنًا بحسب مشيئته ﷻ. وبعض هذه الأشياء هي بمنـزلة يديه، وبعضها بمنـزلة قدمَيه، وبعضها بمنـزلة نَفَسِه ﷻ. ... وأما ما قيل إن كل جزئية من المخلوقات تابعة لمشيئة الله وتُحقق أهدافه الخفية من خلال خدماتها الخفية، وتفنى في سبيل مرضاته ﷻ بطاعته الكاملة؛ فإن هذه الطاعة ليست من قبيل الطاعة التي تأتي نتيجة السلطة والإكراه؛ بل الحق أن كل شيء يُجذَب إلى الله تعالى جذبًا مغناطيسيًا، ويبدو أن كل ذرّة خاضعة له ﷻ بطبعها خضوعَ الجوارح المختلفة للجسم.
فالحقُّ كُلّ الْحَقِّ أنَّ العالَم كله بمنـزلة الجوارح لذلك الوجود الأعظم، ولهذا السبب يسمّى ذلك الوجود قيّومَ العالمين، لأنه قيّوم المخلوقات كلِّها ككون الروح قيُّوم الجسم. ولولا ذلك لفسد نظام العالَـم فساداً تاما.
إنَّ كل مشيئة ذلك القيوم -سواء أكانت ظاهرة أم باطنة، دينية أم دنيوية- إنما تَظهر بواسطة المخلوقات، ولا تظهر مشيئة له على الأرض دون هذه الوسائط قَطْ. هذه هي سُنَّة الله الجارية دون تحويل أو تبديل منذ بدء الخليقة. ولكني أستغربُ استغرابًا ما بعده استغراب من عقول الذين يرون ضرورة بخار الماء كواسطة لنـزول المطر المادي الذي ينـزل على الأرض من السحاب، ويرون نزوله بمحض قدرة الله دون السحاب حاملِ الماء مستحيلا؛ ولكنهم يسْخرون جهلا من توسط سحاب الملائكة -الواجب شرعًا- لنـزول غيث الإلهام الذي ينـزل على القلوب النقيّة، ويقولون: أليس الله بقادر على أن ينـزِل الإلهام بنفسه دون واسطة الملائكة؟ إنهم يعتقدون أنَّ سماع صوت بغير واسطة الهواء ينافي قانون الطبيعة، ولكنهم غافلون عن قانون الطبيعة المتعلق بالهواء الذي يوصل صوت الله الروحاني إلى قلوب الملهَمين. إنهم يقبلون بالحاجةِ إلى ضوء الشمس لتبصر العيونُ المادية، ولكن لا يوقنون بحاجة العيون الروحانية للنور السماوي.
فلما عُلم بوضوح تام بأن قانون الله هو أنَّ هذا العالَم مع جميع قواه الظاهرية والباطنية بمنـزلة جوارح الله واجب الوجود، وأن كل شيء يعمل في الحقيقة عمل الجوارح حسب مقتضى الحال والظروف، وأن كل إرادة من إرادات الله تَظهر بواسطة تلك الجوارح ولا تظهر مشيئة بغير وساطتها قط؛ فعلينا أن نعلم أيضاً على وجه اليقين أنَّ علاقة جبريل -التي عُدَّت ضرورية ومقبولة في الإسلام- بنـزول وحي الله على القلوب الطاهرة مبنية على المبدأ الحق نفسه الذي ذكرناه قبل قليل.
وبيان ذلك أنه من الضروري حسب قانون الطبيعة المذكور آنفًا أن يعمل مخلوقٌ عمل الجارحة لإظهار إرادة الله في مجال إلقاء الوحي أو تزويد أحدٍ بموهبة تَلقّي الوحي، وأن يعمل في مجال تنفيذ مشيئته ﷻ في أمور تتعلق بالإلهام والروحانية كما ينفّذها ماديًا. فهذه الجارحة نفسها تُسمَّى بتعبير آخر "جبريل" الذي يتحرك بلا تأخير كجارحة تبَعًا لحركة ذلك الوجود الأعظم. أي عندما يتوجه الله تعالى بحبٍّ إلى قلب محبٍّ، يضطر جبريل -الذي علاقته بالله علاقة النَفَسِ بالهواء، وعلاقة العينِ بالنور- للتحرك إلى الاتجاه نفسه حسب المبدأ الذي ذكرناه قبل قليل. أو قولوا إن شئتم إنه يتحرك عفوياً وتلقائياً على إثر حركة الله كما يتحرك الظل بصورة طبيعية بحركة الأصل.
فعندما يتحرك نور جبريل بجذبٍ من الله وحثٍّ منه ﷻ ونفحاته النورانية؛ ترتسم صورته -التي يجب أن تسمَّى روح القدس- على قلب المحب الصادق فورا، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من حُبّه الصادق. عندها تعمل هذه القوّة عملَ الأذن لسماع صوت الله ﷻ، وتنوب مناب العين لرؤية عجائبه، وتؤثّر على اللسان تأثير الحرارة المحرِّكة لجريان إلهاماته ﷻ التي تحرّك اللسان بقوة متزايدة على خط الإلهام. وما لَمْ تنشأ هذه القوّة يبقى قلبُ الإنسان عَمِهًا ويبقى لسانُه مثل قطار انفصل عن القاطرة. ولْيَكُنْ معلوماً أنَّ هذه القوّة التي تُسمَّى "روح القدس" لا تنشأ بمستوى واحد في كل قلب، وإنما يؤثر فيه هذا النور الملائكي لجبريل بقدر كمال حُب الإنسان أو نقصه." (إزالة الأوهام)