جاء في تفسير المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول هذه المسألة ما يلي:
"ورَدَ في القرآن الكريم أن زكريا أُعطيَ آيةَ عدم الكلام ثلاثة أيام -سواء أكان توقّفَ عن الكلام قصدًا، أم أن الله تعالى جعل لسانه لا ينطق- بينما يقول الإنجيل إن لسانه توقف عن الكلام عقابًا من الله تعالى، فظل أبكمَ منذ تلقى البشارة إلى أن وُلد يحيى وجاء يوم ختانه، فسئل عن اسم الولد، فكتب على لوح أن اسمه يحيى، فانفتح لسانه وتكلم (لوقا 1: 20 و57-64).
لا شك أن ثمة اختلاف في بيان القرآن الكريم والإنجيل، وعلى المرء أن يسائل عقله وضميره ليعرف أي البيانين حقٌّ وصدق. فهناك كاهن بحسب الإنجيل -والكاهن يماثل المحدَّث عندنا نحن المسلمين- يمنحه الله تعالى الإنعام الإبراهيمي، أعني أن إبراهيم ؏ كما وُعد في شيخوخته بابن من عند الله تعالى كذلك وُعد زكريا العجوز بابن كان موعودًا من قِبل جميع الأنبياء في رأي المسيح، وكانت ولادته ضروريّة وإلا لم يأت المسيح أيضًا؛ ومع ذلك عندما قال زكريا: أنّى يكون لي ولد وأنا شيخ عجوز وامرأتي عاقر، عاقبه الله تعالى بعذاب، وصيّره أبكم لا يتكلم حوالي عشرة أشهر. وذلك بالرغم أن الفعل نفسه قد صدر عن سارة زوجة إبراهيم، حيث ورد: "فضحكت سارة في باطنها قائلةً: أبَعْدَ فنائي يكون لي تنعُّمٌ وسيدي قد شاخ" (التكوين 18: 12)، ولكن ما نـزل بها أي عذاب، ولم يجعلها الله تعالى بكماء ليوم واحد. إذا كان هذا الفعل جناية كان لزامًا أن تعاقَب عليه سارة أيضًا كما عوقب زكريا للسبب نفسه بالبكم لعشرة أشهر.
ثم يتضح من الإنجيل أن زكريا ما قال ذلك إنكارًا، بل عجبًا واستغرابًا من قدرة الله تعالى بدليل قول الملاك: "لا تخَفْ يا زكريا لأن طِلْبتَك قد سُمعتْ"(لوقا 1: 13).. أي أن دعاءك قد استُجيب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل صار زكريا وزوجته عجوزين في ذلك اليوم بالتحديد؟ لا بد أنهما قد شاخا قبل ذلك بفترة. فإذا كانت ولادة الابن أمرًا مستحيلاً في رأي زكريا فلماذا دعا إذًا من أجل الابن؟ إن دعاءه هذا، ثم قول الملاك هذا، يؤكدان إيمانَه بأن الله قادر كل القدرة على أن يهب له الولد. كان زكريا يدرك أنه عجوز، وأن زوجته أيضًا عجوز، ولكنه على يقين أن الله تعالى يملك القدرة المُطْلقة، ومن أجل ذلك كان يواظب على الدعاء من أجل الابن. فلما تلقى الخبر باستجابة دعائه هذا استولت عليه الحيرة وقال في نفسه مستغربًا: سبحان الله، كيف استُجيب هذا الدعاء غير العادي؟ ولكنه لم يكن منكرًا لقدرة الله على ذلك. والبديهي أن العقاب إنما ينـزل بالمنكِر المتردد، أما المتحير المستغرب فلا يعاقَب، بل يعطى الصلات والجوائز.
إذن فإن هذه الشهادة من الإنجيل نفسه لتدعم بيان القرآن الكريم بأن زكريا طلبَ من الله تعالى آية على ولادة الابن، ولكنه لم ينكر قدرة الله. فثبت أن الإنجيل قد أخطأ حين قال أن زكريا عوقب، فظل أبكمَ لا يقدر على الكلام قرابة عشرة أشهر، وأن القرآن كان على حق حين قال إن سكوت زكريا استمر ثلاثة أيام فقط، وأن هذا السكوت لم يكن عقابًا من الله تعالى، وإنما لكي يذكر الله تعالى في تلك الأيام بكثرة. يقول الله تعالى [آيتُك ألّا تكلّم الناسَ ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكُرْ ربَّك كثيرًا وسبِّحْ بالعشيّ والإبكار] (آل عمران: 42). أي أن زكريا مُنع من الحديث مع الناس في تلك الأيام حتى يذكر الله فيها كثيرًا، من غير أن يكون به أي عيب ولا مرض كالعي والخرس كما اتهمه الإنجيل. ومن أجل ذلك قال الله تعالى ]آيتك ألا تكلّم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويًّا] (مريم: 11).. أي أن علامة ذلك أنك لن تتكلم ثلاث ليال، ولكنك تكون [سويًّا] أي بريئًا من أي مرض وعيب. فما أصدقَ ما يقوله القرآن الكريم! فإن الله تعالى لما استجاب دعاء زكريا قال: دَعْني يا رب أشكرك الآن. قال: فاعتكِفْ في المسجد ثلاثة أيام منشغلاً بذكري، وهذا سيكون آية على شكرك لي. أما ما يقوله الإنجيل فغلطٌ عقلاً ونقلاً.
واعلمْ أن هناك فرقاً بيّنًا بين القرآن الكريم والكتاب المقدس. ذلك أن الكتاب المقدس يتجاسر دائمًا على اتهام الأنبياء، أما القرآن الكريم فيبرئ ساحتهم من كل تهمة من هذه التهم. فمثلاً، يزعم الكتاب المقدس أن هارون وقع في الشرك (الخروج 32: 1-6)، ويقول القرآن الكريم إنه لم يقع في الشرك قط (طه: 91). ويزعم الكتاب المقدس أن زكريا أنكر قدرة الله تعالى فعوقب (لوقا 1: 20-21)، ويقول القرآن الكريم إنه لما تلقى الوعد من الله تعالى التمس منه تعالى أن يأمره بشيء يقوم به شكرًا لـه I، فأمره الله تعالى أن يصوم صوم السكوت ثلاثة أيام منشغلاً بذكر الله تعالى، ولكن هذا لم يكن عقابًا ولا مرضًا. ويزعم الكتاب المقدس أن سليمان u كان مجرمًا مستهترًا وغافلاً عن الدين (الملوك الأول 11: 1-6)، ولكن القرآن الكريم يعدّه مؤمنًا صالحًا بارًّا (سورة ص: 31).
فما أعظمَه مِن برهانٍ على صدق التاريخ المذكور في القرآن الكريم، وعلى زيف روايات الكتاب المقدس. إذا كان الأنبياء عباد الله الأخيار فصدور هذه المعاصي منهم محال، وإذا لم يكونوا من الأبرار الأخيار فذكرُهم بصفتهم أنبياء سخف وحماقة. إن التصرفات التي يعزوها الكتاب المقدس إلى أنبياء الله تعالى لو نُسبت إلى عامة المسيحيين أو القسيسين لثاروا للشجار والقتال، ولكنهم يسلّمون بها بكل جسارة في حق أنبياء الله الأطهار!" (التفسير الكبير، سورة مريم)