الدعاء يمثل ركنا أساسيا في بناء واستدامة العلاقة بين العبد وربه؛ إذ يُعتبر تعبيرا حيا عن الإيمان بإله قادر على الاستجابة والعون. بدون الدعاء، يفتقر الإيمان إلى جوهره وتفتقد بقية العبادات لروحها ومعناها الحقيقي. يُعرب الله تعالى عن هذه الحقيقة في قوله: ]قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا[[1]، مشيرا إلى أهمية الدعاء كوسيلة لجذب عناية الله ورحمته، ومحذرا من عواقب الإعراض عن هذه العبادة الجوهرية.
الوعد الإلهي بالاستجابة ودوره الحيوي في حياة الأنبياء والصفوة
وعد الاستجابة للدعاء هو وعد إلهي لا يتزعزع، وقد تحقق دائما لأحباء الله من الأنبياء والرسل والأولياء، ما يُظهر بوضوح وجود إله حي يستجيب برحمته لنداء ودعاء أحبائه.
لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم العديد من الأمثلة على استجابة الدعاء للأنبياء كدليل واضح على ذلك. فعندما تعرّض آدم u للابتلاء، علمه الله دعاءً، وعندما دعا به، استجاب الله له برحمته، كما ورد في القرآن: ]فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[2][ إنه ذلك النداء الصادق الذي منح إبراهيم u البصيرة وحوّل النار إلى برد وسلام، حيث يشير الله تعالى إلى ذلك قائلا: ]قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[3][ كما أنه الدعاء الذي أنقذ يوسف u من الجب وعلّمه العلم والحكمة، وجعله قريبا من الملك. بفضل الدعاء، التقى يعقوب u بابنه المفقود، وأُنقذ موسى u الرضيع وعاد إلى أحضان أمه. الدعاء هو الذي أغرق فرعون وعلّم سليمان لغة الطيور وسخر له الجن[TAD1] . وعندما دعا نوح u ربه طالبا النجاة من ظلم قومه، استجاب الله له ونجاه وأهله من الطوفان الذي كان مصيبة عظيمة كما ورد في القرآن: ]وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ[4][ وعندما دعا أيوب u ربه في ابتلائه الذي قد يكون آلام مرضه الشديد أو ما كان يلاقيه من السلطان، استجاب الله له وفرج عنه كربه، يقول الله: ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[[5] وعندما دعا يونس u ربه وهو في بطن الحوت وكل الأسباب تؤدي إلى الموت، استجاب الله له ونجاه من الغم: ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ[[6] وعندما دعا زكريا u ربه طالبا الذرية في كبره، استجاب الله له ورزقه بيحيى u: ]وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[[7]
أعظم مثال على قبول الدعاء في تاريخ الأنبياء كان في زمن نبينا محمد w، حيث أحدثت دعواته في الليالي الظلماء ثورة فريدة رأى العالم نتائجها؛ حيث أحيا الله ببركة دعائه الروحاني الموتى، وصبغ القلوب بصبغة الله، وأعاد البصر للعميان، وأفاض العلم الإلهي على الألسنة. كما أنه بفضل الدعاء، ظهر بعد زمن طويل، بعد ثلاثة عشر قرنا، المسيح الموعود u ليُظهر عظمة رسول الله في العالم. الدعاء هو الذي حوّل جلسة صغيرة بدأت بـ 75 فردًا إلى تجمع عالمي، وبارك في دار الضيافة لتصبح واسعة. الدعاء هو الذي أهلك أعداء المسيح الموعود u، مثل ليكهرام ودوئي وآلاف غيرهم، وجعل الأحمديين متحدين تحت ظل الخلافة. إنه الدعاء الذي أعطى الجماعة خليفة وإماما يُكلمه الله ويُحيي به الأموات.
إن الله سميع الدعاء
تتجلى إحدى الصفات البارزة التي تميز الإله الحيّ عن الآلهة الباطلة في كونه سميعا لدعوات عباده، خاصة المضطرين منهم. وقد أكد الله تعالى على هذه الصفة في العديد من الآيات القرآنية، مشيرا إلى قدرته الفائقة على سماع دعوات عباده في أحلك الظروف وأشد الأوقات. يقول الله تعالى: ]الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ[8][
القرب الإلهي ووعد الاستجابة
إن من أعظم البشريات التي يُهديها القرآن الكريم للمؤمنين هي تأكيد الله تعالى على قربه منهم وضمان استجابته لدعائهم. يُخبرنا الله تعالى بأنه قريبٌ ويستجيب للداعي حينما يدعوه، ويحث عباده على الاستجابة له والإيمان به، كما قال سبحانه: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[[9]. ويُعرب ربنا العزيز عن هذه الحقيقة قائلا: ]قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[10][
استجابة دعاء المضطر
من السنن الإلهية المستقرة في خلقه، أن يضع الله تعالى عباده في مواقف تمتحن صبرهم وإيمانهم، مستخدما مختلف أنواع الابتلاءات، والتي قد تظهر في صورة حاجة أو ضعف، مما يجعل الإنسان في حالة من الاضطرار والافتقار الشديد إلى رحمة الله وعونه. وفي خضم هذه التحديات، يبعث الله تعالى رسالة أمل للمضطرين الذين يلجؤون إليه بالدعاء، مؤكدا استجابته لدعواتهم، ووعده برفع الضرر عنهم ونصرتهم. يقول الله تعالى: ]أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[11][
آداب الدعاء
إن الدعاء يُعد وسيلة أساسية للتواصل مع الله تعالى وتعزيز الصلة به، فإن القرآن الكريم قد بيّن للمؤمنين مجموعة من الآداب التي يُستحب اتباعها لتحقيق الدعاء المستجاب. ومن ضمن هذه الآداب:
1. الإلحاح والتذلل في الدعاء، والإخلاص في الطلب، حيث يقول الله تعالى: ]ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[12][
2. الاستعانة بأسماء الله الحسنى في الدعاء، وتجنب الابتداع في ذلك، قال تعالى: ]وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[[13]
3. الاعتدال في مستوى الصوت عند الدعاء، فلا يكون جهرا مفرطا ولا همسا خافتا، كما قال تعالى: ]قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا[[14]
[1] (الفرقان: 78)
[2] (البقرة: 38)
[3] (الأنبياء: 70)
[4] (الأنبياء: 77)
[5] (الأنبياء: 85)
[6] (الأنبياء: 89)
[7] (الأنبياء 90-91)
[8] (إِبراهيم: 40)
[9] (البقرة: 187)
[10] (غافر: 61)
[11] (النمل: 63)
[12] (الأَعراف: 56)
[13] (الأَعراف: 181)
[14] (الإسراء: 111)
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.