loader
 

الصبر في مواجهة الابتلاء: رحلة العبد بين الألم والرجاء

 

إذا رمی أحد شخصا بحجر وأصابه، فإن هذا الحجر لم يتحرك من مكانه ولم يصل إليه إلا بإذن الله، مالك السماوات والأرض. لو لم يأذن الله بذلك، لما اهتز الحجر ولم ترتفع اليد التي رمت به، فما من شيء يتحرك أو يسكن إلا بمشيئته سبحانه. كلّ ما يحدث في هذا العالم يقع ضمن علم الله وتدبيره الحكيم، كما قال الله U: ]وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[ يعني أن كل مصيبة تحل بالإنسان، وكل ألم يصيبه، إنما يقع وفقًا لإرادة الله وحكمته البالغة. فما يظهر لنا كألم وحزن قد يكون رحمة خفية تُطهّر النفس وترفع المقام. فعندما يصبر الإنسان على الشدائد بهذا الفهم، فإنه ينال رضا الله تعالى، ويقل غضبه تجاه من رماه بالحجر ويصبح محبوبا عند الله. عندما يتلقى الإنسان إساءة من الآخرين، بدلا من أن يرد بالإساءة أو يذمّ من أساء إليه، ينبغي له أن يتوجه إلى الله بالدعاء قائلاً: "اللَّهمَّ إنِّي ظلَمتُ نَفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ فاغفِر لي مغفرةً من عندِكَ وارحَمني إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ". وأن يناجي ربّه متضرعًا: ]إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ[. في تلك اللحظات العصيبة، عندما تضيق به الدنيا وتتكاثر عليه المصائب، يقف الإنسان في محضر الله متضرعًا، قائلاً: يا رب! أنا ضعيف، وقلبي مثقل بالآلام، وروحي تتوق إلى السكينة.

الله: ]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[

العبد: يا رب، أخشى أن يسيطر اليأس على قلبي، وأن تغمرني مشاعر الإحباط.

الله: ]وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ[

العبد: يا إلهي! متى ستنتهي هذه الأحزان؟ متى ستشرق أنوار الفرج؟

الله: ]عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[

العبد: يا الله! لقد أرهقتني المصائب، وانهارت قوتي.

الله: ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[

العبد: يا الله! يكيد الناس لي بمكرهم، ويحاولون إيذائي.

الله: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[

العبد: يا رب! أنت وحدك ملاذي، قلبي منكسر بين يديك، فلا تتركني.

الله: ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا[

العبد: يا الله! لقد فاض قلبي حزنًا ودمعت عيناي. بأيّ ذنب يظلمونني ويثقلون قلبي بالألم؟
الله: ]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا[.

العبد: يا الله، ما العلاج لهذا الظلم الذي يثقل قلبي ويحيط بي من كل جانب؟
الله: ]إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[

العبد: يا الله، قلبي ممتلئ بالخوف والقلق، هل سيُلحق بي هذا الأمر أي ضرر؟ يا الله، طمئن روحي التي ترتجف من الحزن والرهبة.
الله: ]لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[

العبد: يا الله! ما هو مصيري؟ هل سأخرج يومًا من هذه المصيبة؟

الله: ]مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[

العبد: يا الله! إنهم يظلمونني، وأنا محاصر بأنواع البلاء والمحن.

الله: ]وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[

العبد: زملوني زملوني لأن الظلم يتكرر عليّ مرارًا، وروحي مثقلة بالحزن؟

الله: ]فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ .. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [

العبد: أنحني أمامك يا الله بقلب منكسر وأقول: يا الله، لقد فهمت حكمتك بعد أن أرهقتني الأوجاع وأثقلني الألم... يا الله، قلبي مستعد الآن: ]سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[

فسجد العبد الفقير لربه، رافعًا كفَّيه المرتجفتين نحو السماء، وهو يبكي كثاكل، وناداه بصوت مخنوق يملؤه الوجع:

أشْكُو إلَى الرَّحْمنِ قِلَّةَ حِيْلَتِي

وَكَثَاكِلٍ أَبْكِي وَلَا أَتَبَاكَى

فَاعْمُرْ فُؤَادِي بِالْيَقِينِ وَمُهْجَتي

مَنْ يَا حَبِيْبِي لِلضَّلِيْلِ سِواكَا؟!

من هنا تتحرر روح الصابر من قيود الأرض، وتحلق في آفاق السماء، حيث يملأ نور الله قلبه وبصيرته، فيرى الحقائق كما هي، عارية من زيف الدنيا، ويدرك مصائبه كأنها سحب صيف عابرة، ويرى ظالميه كأدوات في يد القدر الإلهي، فينظر إليهم بعين الرحمة لا الغضب، ويقول في تسليم عميق: ]حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[ ثم ينطق قلبه المضيء بالحب الذي لا يزول، فيخاطبهم برقة ورفق: ]لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ[ كأنما يفتح لهم باب النجاة بعد أن أوصدوه هم بأيديهم. وفي دعاء يفيض من أعماق روحه النقية، يتضرع قائلاً: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". وكأنه يرى فيهم النفوس التي يمكن أن تتحول من ظلام الجهل إلى نور المعرفة. ثم يعود ليهمس في سرائر الغيب: "عسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده"، آملاً أن تتجلى حكمة الله في تحويل قلوبهم وإنجاب أرواح طاهرة تُكمل مسيرة النور.

مهلا أيها القارئ: من هنا يبدأ فصل جديد من رحلته.. ألم ترَ كيف أنعم الله على الأنبياء جزاءً لصبرهم وثباتهم في مواجهة الابتلاءات؟ ألم تقرأ قصة إبراهيم u، حين أُلقي في النار، فجعلها له "بَرْدًا وَسَلَامًا" بسبب صبره وثقته به؟ ألم تنظر إلى يوسف u، الذي ألقاه إخوته في البئر، لكنه صبر حتى رفعه الله إلى مقام عظيم وجعله عزيز مصر؟ ألم تسمع عن أيوب u، الذي تحمل المرض والفقر والابتلاء، فجازاه بالشفاء وأعدّ له نعمًا لا تعد ولا تحصى؟ وألم تفكر في حياة سيدنا محمد r، الذي لاقى الأذى من قريش، وأُخرج من أحب البلاد إلى قلبه، لكنه صبر، فكافأه الله بفتح مكة وعلو كلمة الإسلام؟

ومن يصبر على البلاء بهذا الفهم، يُكافأ من الله بأجرٍ عظيم. فيُصبح الألم بردًا وسلامًا، ويقل الغضب تجاه من أساء، لأن الرحمة الإلهية تملأ القلب، فتطغى على كل مشاعر الانتقام. ثم يأتي وعد الله الكريم، بأن يمنح هذا الصابر مقامًا عظيمًا، مقام "ألم نشرح"، فيشهد بعينيه تحقق وعد الله: ]ولسوف يعطيك ربك فترضى[ إنها لحظةٌ تنقلب فيها الأحزان إلى أفراح، والآلام إلى سكينةٍ تغمر الروح، لأن الله أكرم من أن يترك عبده الصابر دون أن يرفعه ويكرمه. والرحلة التي تبدأ بالصبر دائمًا ما تكون بدايتها ونهايتها بـ"الحمد لله". فمن يبدأ بهذه الكلمة ويعيشها بإخلاص، يجد نفسه في نهاية الطريق ينطق بها مرةً أخرى، ولكن هذه المرة بقلبٍ مطمئن ووجهٍ مشرق، لأنه يسمع البشرى الإلهية: ]وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[ وفي التضحية، نجد أبلغ صور الصبر. عندما يُذبح الحيوان في سبيل الله، فإنه يتألم ويتوجع، وتصدر منه صرخاتٌ تحرك القلوب. ومع ذلك، فإن الله يجعل من هذه التضحية سببًا للأجر العظيم، الذي يمتد ليشمل ليس فقط من قدّم القربان، بل أيضًا أهله وأقاربه، كأن الرحمة الإلهية تتدفق لتغمر الجميع. ما أعظم أن يتحمل الإنسان المشقة في سبيل الله، وما أجمل الصبر عندما تُمزَّقُ الروح من الداخل، لكن صاحبها يرفع يديه إلى الله، يهمس بصوتٍ خافتٍ ولكن مليء باليقين: "رضيتُ يا رب، رضيتُ بما قسمتَ لي". فلا تضيع الدموع، ولا يذهب الألم هباءً، بل يُسجل عند الله الذي يرفع ذكر صاحبه ويمنحه من فضله ما لا يخطر على قلب بشر. وحين تنجح هذه النفس الصابرة، بعد أن ذرفت دموعها في خلواتها، تسمع نداء الله بصوت الرحمة والحنان: ]قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[ فما أعظم الجزاء حين يأتي من الكريم الوهاب، وما أروع النهاية حين يكون اللقاء مع الرحمن الرحيم. وفي لحظات المصائب والابتلاء، حين تتكالب الأحزان وتضيق الأرض بما رحبت، يصل الأمر بحبيب الله إلى حالة من الإنكسار العميق، فلا يجد في قلبه رغبة ليدعو على أحد، ولا ليرد الظلم بالظلم. بل ينكسر بين يدي الله، ويُسلّم أمره بكل ما فيه قائلاً: ]وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ[ وفي هذا التسليم الممزوج بالدموع والآهات، يتسلل إلى قلبه سكينة عميقة كأنها الجبال الراسخة، تُطفئ نيران الأحزان. وبعد هذا التفويض، ينقطع قلبه تمامًا عن البشر، فلا ينظر إلى أحد طلبًا للفرج، إذ يرى في ذلك شركًا. بل يُلقي روحه بكل ما فيها بين يدي الله، فيصبح عبدًا خالصًا له، ويصبح الله كل شيء له. وعندما يصبح الله مع عبده، تصبح الدنيا بمآسيها وأوجاعها لا شيء، فيتحقق فيه قوله تعالى: ]لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [وعندما يجتاز تلك المصائب بنجاح، محققًا رضا الله ومرضاته، يصرخ قلبه على الفور قائلاً:

يا رب! ]الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ[

الله: ]وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[

العبد: كنت أظن أنني لن أخرج من تلك الظلمات.

الله: ]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[

العبد: الآن أدركت حكمتك يا رب.

الله: ]عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[

العبد: يا الله، لماذا منحتَني كل هذه النعم بعد تلك المصائب والآلام؟

الله: ]قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسنين [ 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة