العبادات التي كتبها الله على عباده وأنزلها في كتابه، ليس لها من غاية إلا الترقي بالنفس الإنسانية، وانتزاعها من حضيض الغواية والإخلاد إلى الأرض بسلاسل وأغلال الشهوة، وسعير اللذة والدونية، خُلق الإنسان ضعيفًا، ينحدر بقوة هائلة إلى مهاوي سراديب النفس وظلماتها، وتختلبه مخالب ثوائرها وجذباتها، فيكون لها مطيةً تمتطيه وتقوده، ولها يذل ويخضع، هو معها في وفاق لأنها تُشبع غول رغباته النَّهِم، لكنه لا يزال يعوي ويطلب المزيد، حتى يكون الأمل في إشباعه رابع المستحيلات، تلك النفس الأمّارة التي أُمرنا أن نذبحها بسكين حرمانها، وكبح جماحها وعصيانها والتمرد عليها، فكتب الله علينا الفرائض التي لا يكون المرء مسلمًا تام الإسلام بالتفريط في أحدها، وفي ذلك يقول البوصيري في بُردته الشهيرة:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على | حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
وقال آخر
عليك نفسَك هذبْها فمن ملكتْ | زمامَه النفسُ عاش الدهرَ مذمومًا
وقد ورد في المزامير على لسان داوود عليه السلام: {أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي} (اَلْمَزَامِيرُ 35 : 13)
والصيام أحد تلك الفرائض، وركن ركين من أركان الدين، وسبيل قويم للسيطرة على النفس وإجبارها على تحويل مسارها، من أجل تفهيمها أن المِقْوَد ليس بيديها، فلا سبيل لها أن تأمره فيأتمر، وإنما هو آمرها وعليها أن تستجيب، ولم يعد لها بعد اليوم عليه من سلطان، ربما ظللنا أحد عشر شهرًا في سجال، تارة نخضع لكِ، وتارةً نُخضعك، فإذا جاء رمضان، وسمعنا قول ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة 184) امتثلنا، وكان ذلك أعلانا بإحكام القبضة، وانتزاع سلطانكِ منكِ، وإعلان الهيمنة التامة عليكِ، أيتها النفس: إذا جاء رمضان أصبحتِ ذليلة بعد عزة، وهزيلة بعد قوة، ومستكينة بعد هيمنة، وقد يكون الإنسان قادرا على ذلك على مدار العام، لكن بصورة متقطعة، وبضربات هزيلة، لا تكفل قتل الثوائر ودفنها، بل ربما تفقدها توازنها قليلا، لكنها لا تلبث أن تلملم شتاتها، وتستجمع قواها، وتعاود الهجوم بضراوة، ولكن توالي الضربات ثلاثين يوما كفيل أن يصرع تلك الأمارة، وتتولد اللوامة فالمطمئنة.
الحق أن الصيام يرفع من حالة الروحانية للمرء، إذ إنه يحُط من شأن الجسد بحرمانه من مشتهياته، ولو كانت في الأصل حلالا له، فإنه معلوم أن البِطنة تُذهب الفطنة، وإذا ذهبت فطنة الإنسان فبأي قلب يشعر بربه، وبأي عقل يفطن إليه، وبأي فؤاد يراه؟ فكان لزاما على العبد أن يحرم الجسد من بعض وَقوده ليخفف أجيج صولاته، ويُضعف قوى هجماته، ويسمح للروح أن تطير وتحلق في سماء القرب الرباني، فإنه معلوم أن الشيء إذا خفّ علا وتسامى، وإن كان حرمان الجسد من مشتهياته بعض الوقت يشكل مضاراً كما يرى البعض، إلا أن كثيراً من الفوائد تكمن فيه أيضا، علماً أن فترة الصيام ليست بالطويلة التي تلقي بالصائم في هاوية الموت والهلاك، إنها ساعات تمثل نصف يوم، والامتناع عن الطعام والشراب والمشتهيات نصف يوم ليس بقاتل، وإنما تكمن فيه الفوائد الصحية الجمة التي يوصي بها الأطباء مرضاهم، حتى من غير قصد عبادة، وفي هذا الإطار روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صوموا تصحوا}، أما من يُخشى عليه الهلاك من الصيام لمرض عارض أصابه، أو ضعف أوهزال ألمّ به، فليس عليه صيام آنذاك، وإنما عِدةٌ من أيام أخر، لأن الله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، حتى المسافر في رمضان ليس عليه صيام أيام سفره ولو لم يكن سفره شاقًا، فالأمر إذاً ليس الهدف منه المشقة والتعسير، وإلا فلماذا يُسقط فريضة أساسية كالصيام عن كاهل المريض والمسافر، وهما نموذجان ـ ولا أفضل ـ ليظهر عليهم أثر المشقة في أجلى صورها، وفي هذا يقول تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة 186) ويقول أيضا عمن لا يتحمل الصيام {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة 185)، فمن شرط الصيام التحمل، وليست الغاية التنكيد وفرض أوامر عشوائية مهلكة، إنما الصوم وسيلة رائعة لنوال البركات، وإن الله تعالى يفتح للإنسان ألف باب وباب من أجل نوال قربه، والفوز بمرضاته، واستقبال عطاياه، والصيام أحد تلك النعم الكبرى، التي لو أدرك الإنسان قيمتها لصام صيام داوود؛ يصوم يوما ويفطر يوما، ولصام صيام سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يظن أصحابه أنه يصوما أبدًا ولا يُفطر، من كثرة ما يرونه صائمًا.
أدرك المسيح الموعود عليه السلام ذلك كله في بواكير حياته فقال: "ليس الصوم أن يبقى الإنسان جائعًا وعطشانا فقط، بل له حقيقته وتأثيره اللذان يطّلع عليهما لإنسان من خلال التجربة، ومن طبيعة الإنسان أنه كلما أكل قليلاً كلما حصلت له تزكية النفس، وازدادت قواه الكشفية" الملفوظات جـ 9 صـ 123، فاتخذ الصيام له جنة ووجاءً، حيث كانت العبادات في الإسلام عنده ـ عليه السلام ـ وسائل لا غايات، في الوقت الذي كان فيه عامة المسلمين يتخذون من تلك الوسائل غايات، ويحصرون الدين كله في شكليات، ويعتبرونه مسلما تام الإسلام ذلك الذي مارس تلك الطقوس الشكلية، ويرونه مستحقا للتجليات الإلهية والبركات، بالرغم من أنه ترك الثمرة، وآخذ في التهام قشورها، فما انتفع بغذاء بات يؤمّل به نفسه، إلا أن توعكت أحشاؤه وتراخت قواه وهو لا يدري لذلك علة، لأن سماسرة الدين قد علموه أن في تناول القشور والاكتفاء بها الكفاية الكافية، فبعث الله المسيح الموعود عليه السلام، وضرب به مثلاً أن كيف يكون الصيام، وما ثمرته، وكيف يكون تحقق غاياته المرجوة، وقرأ بعينيْ قلبه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة 184) ، فأدرك أن الصيام سبيل التقوى وسبيل الترقيات والقرب الإلهي، وأنه لا مجال لينال العبد التقوى الكاملة والعرفان الإلهي إلا بالصيام، فسافر إلى (هوشيار بور) من أجل الاعتكاف، حسب توجيه الله تعالى له، حيث ألهمه بقوله ( ستُحلّ مشكلةٌ في هوشيار بور) التذكرة صـ 134 ، وقال حضرته عن هذا الإلهام:"لقد أخبرني الله ـ جل شأنه ـ باسم المدينة التي أعتكف فيها فترة من الزمن وهي هوشيار بور" التذكرة صـ 133، ومكث في أحد البيوت، وقرر العزلة عن العالم، والانقطاع من الناس، والصوم لأشهر ليس بمقدور أحد من الناس، حتى إذا أذن مؤذن المغرب معلنا السماح بالإفطار، لم يكن إفطاره إلا على لقيمات يقمن صلبه، وبعد انقضاء ذلك الصوم الطويل، نال ما تمنى، وبُشِّر بولد صالح مصلح، ذي اثنتين وخمسين منقبة، يملأ الدنيا علما، ويواصل تبليغ دعوته إلى أقصى أطراف الأرضين، قال فيه الوحي الشريف: "إن الله بشرني وقال: سمعت تضرعاتك ودعواتك، وإني معطيك ما سألت مني وأنت من المعمين، وما أدراك ما أُعطيك؟ آية رحمة وفضل وقربة وفتح وظفر. فسلام عليك أنت من المظفرين، إنا نبشرك بغلام اسمه عنموايل وبشير، أنيق الشكل، دقيق العقل، ومن المقربين، يأتي من السماء، والفضل ينزل بنزوله، وهو نور ومبارك وطيب ومن المطهرين........." التذكرة 138\139
وإن اتفقنا أن الأجر على قدر العمل، والثواب على قدر العبادة، والطمأنينة على قدر الخشوع، وأن استجابة الدعاء على قدر الإخلاص والصدق وطهارة الباطن وصفاء النية، فتكون النتيجة الحتمية، أن الله تعالى لم يكن ليبشر إنسانا بتلك البشريات الرابية على الخمسين منقبة، بهذا الشكل الباهر العجيب إلا إذا كان قد بخع نفسه طاعةً، وتوسلاً وسؤالاً ودعاءً، فكانت إجابة سؤله آية صدقه، وأنه من المقبولين، وكانت بشراه يوم عيده، فما من صوم إلا ويعقبه عيد، ويوم العيد يوم استجابة الدعاء، فجعل الله العيد هو اليوم الأول بعد انقضاء أيام الصيام، ليدلل أنه لا فاصلة بين الدعاء والإجابة، ويعبر عن نفس هذا المعنى حرف (الفاء) في قول رب العزة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة 187) ، حتى إن بعض علماء اللغة أطلق على تلك (الفاء) (فاء الشبح) لتحقُق معنى السرعة فيها، وهذا هو معنى العيد بعد صيام رمضان، وكأن الله يقول للناس: من دعاني أجبته، ومن سألني أعطيته، ومن علق سعادته بطاعتي ورضائي أسعدته، فما من صائم سائل إلا جعلت إجابة سؤله يوم عيده، وهذا ما يفسر تزييل آيات الصيام في سورة البقرة بقوله تعالى ( وإذا سألك عبادي) و(عبادي) المقصودون هنا هم الذين امتثلوا لأمري بصيام رمضان فصاموه لطاعتي، وتحقق هذا المفهوم بجلاء مع المسيح الموعود عليه السلام، فجعل الله عيده نوال مطلبه، واستجابة ترجياته
إن الله تعالى قد وهبه ثمرة صومه قمة تقواه، وثمرة تقواه بشراه، وتحقُّق بشراه دليلُ عزته ووجاهته وكونه من الله، إنه عليه السلام قد قرأ القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بضمير قلبه، وصميم فؤاده، فكشف الله عليه سر العبادات، ولم يتوقف ذلك السر عند حدود الألفاظ والكلمات، وكأنها تمائم وتمتمات، بل وقائع مدرَكات، وحقائق مسموعات مرئيات، هنا، وهنا بالتمام أصبح الدين واقعا ملموسا، وليس قصصا وحكايات موروثات، وأصبح بين أيدي الناس للصوم تجسدٌ في بشر سويّ بمناقبه وكمالاته، ليس بوسع العالم كله أنكار منقبة واحدة منها، من ذا الذي بمقدوره أن يطعن في جدوى الصوم بعد آية باهرة كهذه الآية، ويكون قولنا فيما بعد أن الصوم يزرع حبوب التقوى في القلوب شمسًا ساطعة لا ينكرها حتى العميان، لأنهم لو لم يروا ضياءها، للَفحهُم حرُّها، ولم يعد بمقدور المتشدقين من أساطين الديانات الأخرى أن يثبتوا لأنفسهم آية كتلك الآية، إنها الوسيلة المثلى لإثبات علو راية الإسلام وهيمنتها على سائر الرايات، إذ إن الله القيوم لا يزال يعلن عن نفسه مع أي فريق يكون، وأن البقية الأخرى أدعياء دجالون.
إن الصائم بصومه قد أعلن استتاره بربه وطاعته من لهيب الشرور والمعاصي، فكان بذلك من المتقين، وفي هذا المقام يقول صلى الله عليه وسلم {الصَّوْمُ جُنَّةٌ} أي سِتر (صحيح البخاري، كتاب التوحيد)، ووصفه في حديث آخر أنه (وجاء) أي وقاية، فتكون النتيجة أن يحمي الله عبده من الضعف والتخاذل والسقوط في غياهب جُبِّ المعاصي، كذلك يوفقه إلى أعمال الخير والترقيات الروحانية، وكلها تقوى، ولم تتحقق التقوى كواقع عملي ملموس في هذا الزمان بشكل تام إلا للمسيح الموعود عليه السلام، الذي تلقى فيها البشرى بصورة لن نكون مبالغين حينما نصفها بالبشرى الإعجازية، التي ليس بوسع البشر جميعا أن يتكهنوا بها، ثم يحققوها بمساعيهم مهما بلغوا من المقدرة والعلم والكيد، وأثبت حضرته عليه السلام على أرض الواقع صدق الله تعالى حينما قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (العنْكبوت 70) وقدم نموذجا للجهاد حسب ما يقدمه كتاب الله الفرقان.
قد آن لدين الإسلام أن يكون حياةً، بعدما كاد أن ينصبغ بالكامل بصبغة الأساطير وأقاصيص سالف الأيام، وليس هذا الكلام ضربًا من الإيغال في المبالغة، وإنما هو واقع مشهود، نادى به السير (سيد أحمد خان) وآخرون، الذي تصدى له المسيح الموعود عليه السلام وأثبت تهافت معتقداته بالأقوال والأفعال، وما بعض المنادين بمذهب الطبيعة والإلحاد اليوم إلا التطور الطبيعي لما ذهب إليه (خان) ورفاقه، فقد خرج من الإسلام زهرة شبابه بين معلنين ومستترين بسبب أنهم يفتقدون النموذج الذي يمثل الإسلام شكلا ومضمونا، ولأنهم لا يرون آية واقعية تثبت أن إله الإسلام موجود وباقٍ ومهيمن قيوم، وأن مقاليد الأمور بيده حقاً، وأنه قادر على استجابة دعاء من دعاه بالفعل، فيُهلك أعداءه إن دعاه أن يُهلكهم، وينصره في كل موطن إن دعاه أن ينصره، ويعصمه من الناس إن دعاه أن يعصمه، ويعده أن يحفظه من القتل حيث يهم به آلاف من الناس ويتربصون ويكيدون ويتحقق وعده، يبشره أن يَحيَى قريباً من ثمانين ويحيَى قريبا من ثمانين، ويبشره بولد ذي صفات نبوية في مدة محددة حيث لم يكن لديه زوجةٌ تعيش معه أصلاً، ويعطيه.
إن نموذج صوم المسيح الموعود ويوم عيده يجب أن يسمع به العالم كله ولا سيما المسلمين، ففيه روحهم التي خرجت، وحياتهم التي ذهبت، ومجدهم الذي داسته الخنازير ولوثته الكلاب، فلم يعد يجدي معه تطهيراً ـ ولو ـ سبعًا إحداها بالتراب، إلا بحبل من الله ومدد، ذلك ليعلموا أن روح الإسلام قد دبت فيها الحياة، وأن إله الإسلام لا يزال كامل الأسماء والصفات يسمع ويجيب، وأن كلمات القرآن كلها تصلح أن تكون كائنات حية يدركها الناس بالحواس، وأن عالم الغيب يمكن للمرء أن يراه رأي العين، ويسمعه سمع الأذن، وليس خافياً إلا على من غلبت على نفسه شقوته، وأن الأمل قد تجدد في إحياء أمة كانت خير أمة أُخرجت للناس، في الوقت الذي حدده سبحانه ليُظهر دينه على الدين كله.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.