ثمة صراع قديم بين التمسك بحرفية النصوص الدينية المقدّسة والضرورة التي تُحتّم - في كثير من الأحيان - تأويلها بشكل منطقي يقبله العقل دون أن يكون ذلك على حساب النصّ الموثّق.
ويتبدّى هذا الصراع حادّاً أكثر ما يتبدّى حول النصوص المتعلّقة بالنبوءات المستقبلية التي وردت في الكتب المقدّسة (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم) لدى أصحاب الرسالات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
وأمّا فيما يتعلّق ببحثنا هذا، (خـروج المسـيح الدجّال)، فإنّ الصراع بين الإصرار على التمسّك بحرفية النص وضرورة الأخذ بالتأويل يكاد يبلغ ذروته القصوى، كما أنه يقسم الباحثين والمهتمين - من حيث الفهم والاعتقاد - إلى فريقين متباينين، وقد يصل الخلاف بينهما إلى حدّ يجعل القائلين بالحرفية يتّهمون مخالفيهم بإفساد العقيدة والناس، وقد يصل أحياناً إلى حدّ تكفيرهم!
ولمـّا كان لابدّ من وجود (حقيقة) في الأمر تكون هي الأصل والمرجع الصحيح الذي يجب أن يؤخذ به، كي تُفهم - من خلاله - الحقائق ذات الصلة، لذا فإنّ من الضروري لكلا الفريقين، أن يُعاودوا النظر في موقفهما الاعتقادي من غير تعصّب أو تصلّب، وذلك بُغية الوصول إلى الفهم والاعتقاد السليمين الخاليين من شوائب التقليد الأعمى المتوارَث دون ما تفكّر أو دراسة أو تمحيص لتبيّن الهَدْي الصحيح للنصوص المقدّسة، والتي لا ريب في أنها لم ترد عبثاً، بل جاءت تحمل رسالة يقُصد منها الهداية إلى فهمٍ أو ممارسة معيّنة؛ وبذلك يستنير الفرد والمجتمع بالهَدْي الصحيح للنبوءة المقدّسة، ويصير أقرب إلى الإيمان الحقّ الذي يعتقد المؤمنون أنّ فيه الخير. ولا شكّ في أنّ الإيمان الحقّ يجب أن يهَدْي إلى العمل الحق الذي فيه كلّ الخير للإنسان الفرد وللبشرية جمعاء.
- ضلال الفهم المترتّب على التمسّك بالحرفية
مما لاشكّ فيه أنّ أحاديث خروج الدجّال ومجيء المسيح الموعود عليه السلام قد بلغت حدّ التواتر ولا يمكن إنكارها، كما بيّن ذلك العلمـاء المحقّقون ومن بينهم القاضي العلاّمة محمد بن علي الشـوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المهَدْي المنتظر والدجّال والمسيح) ، ولكنّ المسلم المصدّق بها يجد نفسه مضطرّاً إلى عدم الأخذ بحرفيتها لأنّ مَن يدرس هذه الأحاديث بمجملها - على ضوء الأسس الإيمانية المبيّنة في القرآن الكريم والحديث الصحيح - يجد أنّ الإصرار على فهم هذه الأحاديث الشريفة بالحرفية التي جاءت فيها دون أيّ توفيق أو تأويل منطقي مدروس على أساس الهَدْي القرآني الصحيح، يضع الفأس على رأس التوحيد، كما أنه يؤديّ بكلّ تأكيد إلى:
1 ـ التناقض بين بعض هذه الأحاديث وبعضها الآخر.
2 ـ التناقض بين هذه الأحاديث والقرآن الكريم.
3 ـ التناقض بين هذه الأحاديث والمنطق العلمي والعقلي السليمين.
وبما أنهّ يستحيل وجود أية تناقضات في الأحاديث الصحيحة، فلا بدّ إذن من محاولة فهمها على أسس التأويل التي أقرّها وبيّنها القرآن الكريم كما سنبيّن ذلك في مكانه بعون الله تعالى.
ولبيان التناقض المترتّب على الأخذ بالحرفية نورد الأمثلة التالية:
- دخول الدجّال مكّة وطوافه بالبيت:
جاء في عدد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال لا يستطيع دخول مكّة ولا المدينة، لأنّ الله عزّ وجل قد حرّم عليه دخولهما، ولكننا نقرأ في أحاديث أخرى أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة، فقد جاء في صحيح مسـلم ومسـند ابن حنبل في حديث رسـول الله صلى الله عليـه وآلـه وسلم الحديث التالي، حيث يقـول الدجّـال عن نفسه:
(.. وإني أوشـك أن يؤذن لي بالـخروج فأخرج، فأسـير في الأرض، فلا أدع قرية إلاّ هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، هما محرّمتان علي كلتاهما).
وكذلك روى ابن ماجة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الحديث التالي:
(.. لا يبقى شيء من الأرض إلاّ وطئه - أي الدجّال - وظهر عليه إلاّ مكة والمدينة، فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلاّ لقيته الملائكة بالسيوف صلتة..).
يتأكد من هذين الحديثين أنّ الله عزّ وجل قد حرّم على الدجّال دخـول مكّـة والمدينة بالرغم من أنّه سيظهر على الأرض كلّـها، في حيـن أننا نقرأ في الحديث التالي أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة أيضاّ.
جاء في صحيح البخاري في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(.. وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدم كأحسن ما يُرى من أُدم الرجال تضرب لمّته بين منكبيه. رَجْل الشعر يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسـيح بن مريم. ثم رأيت رجـلاً وراءه، جعداً قططـاً أعـور العين اليمنى، كأشـبه ما رأيت بابن قطـن، واضـعاً يديـه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: المسيح الدجّال). صحيح البخاري كتاب الرؤيا وصحيح مسلم
أجمع العلماء على أنّ رؤى الأنبياء حقّ لأنها من الله، ونجد في هذا الحديث أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة؛ في حين جاء في الحديث الآخر أنّ مكة والمدينة محرّمتان على الدجّال ولا يستطيع دخولهما، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟! ثمّ كيف يمكن لعملاق قَدِرَ على الأرض جميعها أن يعجز عن دخول مدينتين صغيرتين منها؟ وما القوى التي ستمنعه في حين أنّه قد ملك القوى كلَّها، كما تُبيِّن الروايات التي تتحدّث عنه؟
ومن الأسئلة الإشكالية التي قد تُثيرها هذه الأحاديث أيضاً - في نظر بعضهم - هي: كيف يدخل الدجّال مكة ويلتقي بالمسيح الموعود عليه السلام في حين أنّ الدجّـال لا يسـتطيع مـواجهته؟ إذ ورد في أحاديث الرســول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال إذا رأى المسيح الموعود ذاب كما يذوب الملح، أو كما يذوب الرصاص، أو انماث كما تنماث الشحمة في الشمس، أو أنه يموت بِنَفَسِهِ لأنه كافر؛ فقد ورد أنّه لا يحلّ لكافر يجد ريح نَفَس المسيح الموعود عليه السلام إلاّ مات. / راجع هذه الأحاديث في بحث الدجّال في مصادر الحديث الشريف
وجاء أنّ القاضي عيّاض أجاب عن هذا الإشكال فقال:
"إنّ رؤيا الأنبياء وإن كانت وحياً، إلاّ أنّ منها ما يقبل التعبير ".
ويؤكّد العلاّمة علي القارّي هذا المذهب في الفهم فيقول:
"قال التوريشي: إنّ طواف الدجّال عند الكعبة مع أنّه كافر، مؤوّل بأنّه رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من مكاشفاته، إذ كوشف بأنّ عيسى في صورته الحسنة التي ينزل عليها يطوف حول الدين لإقامة أموره وإصلاح فساده، وأنّ الدجّال في صورته الكريهة التي يظهر عليها يدور حول الدين يبغي العوج والفساد " / المرقاة شرح المشكاة ج: 5 ـ باب بين يدي الساعة
- عين الدجّال العوراء
ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال: (أعور العين اليمنى). / صحيح البخاري
وجاء في حديث آخر:
(الدجّال أعور العين اليسرى). / صحيح مسلم
وقد اختلفت الروايات حول شكل عينه العمياء، إذ جاء في الحديث:
(كأنّ عينه عنبة طافئة) وفي حديث: (إنه مطموس العين) مشكاة المصابيح
وجاء في رواية ابي سعيد عند أحمد أنّ الدجال:
(جاحظ العين اليمنى كأنها كوكب درّي).
فكيف يمكن الأخذ بهـذه الأحاديث بحرفيتها مع وضـوح التناقض فيها؟ لا بدّ إذن من برهان مقنع.
- قدرات الدجّال الخارقة
بيّنتْ أحاديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال يتّصف بصفات وقدرات خارقة نورد فيما يلي أمثلة عليها:
* يأتي معه بالجنة والنار وجبال من خبز ولحم وطعام
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ:
(الدجّال أعور العين اليسرى ... معه جنة ونار) صحيح مسلم
وجاء في رواية أنّ الدجّال:
(معه جبل خبز ونهر ماء) صحيح البخاري
وفي رواية أنّ:
(الدجّـال يخـرج وإنّ معـه مـاءً ونـاراً، فأمـّا الذي يـراه الناس ماءً فنار تحرق، وأمّا الذي يراه الناس ناراً فماء عذب بارد. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً فإنّه ماء عذب) صحيح مسلم
وهل يُعقل هنا أن يأمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ من أمّته أن يُلقوا بأنفسهم وأهليهم في نار الدجّال—باعتبار أنها هي الجنة، لو كانت هذه النار حقيقية؟ وماذا لو أوقد الدجّال ناراً حقيقية هائلة ثم أَمَر المسلمين أن يلقوا بأنفسهم فيها طاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! وهل يمكننا تخيل مشايخ المسلمين يفعلون ذلك لكونهم أول من يحرص على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وجاء في حديث:
(أنّ معه الطعام والأنهار) صحيح مسلم
وفي حديث:
(معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر نار تؤجّج). صحيح مسلم
كما جاء في حديث:
(معه واديان أحدهما جنّة والآخر نار) أبو داود
وفي حديث:
(يأتي معه بمثل الجنّة والنار) متّفق عليه
وفي حديث:
(ويكون لـه جنّة ونار، فيقول: هـذه جنـّة لـِمن سجد لي، ومن أبى أدخلته النار) .
وروى الحاكم وابن عساكر عن ابن عمر أنه:
(يسير مع الدجّال جبلان، أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار فيقول هذه الجنّة وهذه النار). / (الإشاعة لأشراط الساعة ) ص : 124
وفي رواية نعيم عن أبي مسعود:
(معه جبل من مرق وعراق اللحم حارّ لا يبرد، ونهر جـارٍ، وجبل من جنـان وخُضـرة وجبـل من نـار ودخـان، يقـول هـذه جنـتي وهـذه ناري، وهذا طعامي وهذا شرابي). / ( الإشاعة لأشراط الساعة )، ص : 126
لقد أثارت هذه الأحاديث الشريفة - المتعلّقة بتملّك الدجّال للجنّة والنار وجبال الطعام من الخبز واللحم والمرق والماء والأنهار - دهشةَ واستغراب العلماء المتفكّرين الذين يرفضون أن يكون ثمة تناقض بين المنطق الديني والمنطق العقلي العلمي. ولمّا كان الإصرار على الأخذ بالحرفية يؤدّي حتماً إلى ظهور مثل هذا التناقض والتعارض المرفوضين، فقد ذكرتْ الكتبُ اختلاف العلماء في هذا الشأن، حيث نقرأ:
"اختلف العلمـاء في هذه الجنّة والنار، هل هي حقيقة أم تخيُّل ".
وقد مال ابن حبّان في صحيحه إلى أنّه تخيّل، واستدلّ بحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين أنه قال:
(كنت أكثـر مَـن ســأل النبي صـلى الله عليـه وآلــه وسـلم عـن الدجّال، فقال لي: وما يُضيرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون إنّ معه جبل خبـز. قال: هو أهـون من ذلك)؛ " ومعناه أنّه أهـون من أن يكون معه ذلك حقيقة، بل يُرى كذلك وليس بحقيقة "). / (الإشاعة لأشراط الساعة)، ص: 126
وجاء في (المرقاة شرح المشكاة باب العلامات بين يدي الساعة) في معرض شرحه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو أهون على الله من ذلك، قال: (قوله هو أهون على الله من ذلك أي أنّ الدجّال أحقر على الله تعالى من أنّ يُحَّقق له ذلك وإنما هو تخييل وتمويه للابتلاء فيثبت المؤمن ويزلّ الكافر). (القول الصريح في ظهور المهَدْي والمسيح) لمؤلفه: نذير أحمد
(يُتبع)
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.