لله تعالى محكمات ومتشابهات، يزدحم بها الكون ويكاد بها ينطق، ولكلٍّ قومُه وذووه ومُدرِكوه ، فالمحكَم من الآيات الإلهية يكفي ذوي الفطرة النقية الذين هم أتقياء، وبه يقنعون، ويؤمنون بصدق الآيات ولا يجادلون ولا يتمارون، والمتشابه فتنة لهم لينظر الله أيشكرون أم يكفرون، فإذا أوكَلوا إليه الأمر، وأسلموا له وجوههم وقلوبهم مؤمنين، وفي فهم تلك الآيات كانوا له مفوِّضين، زادهم من الدرجات رفعةً وكانوا له من المقرَّبين،
وأما من كان من الذين يعبدون الله على حرف فهو ممن وضع نفسه على شفا جُرُف هارٍ، فيُخشَى أن ينهار به في نار جهنم بما كان من المتشككين الهاوين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون الذين هم على ربهم يتوكلون، وبالمحكمات من الآيات يكتفون، ولا يرجون مزيدا من الشرح والتفصيل والمماحكة والاستزادة من التأويل، وهم على كل كلمة وحرف وحركة يعلقون ويؤولون ويغالون إلى أن ينضموا لزمرة الغاوين،
ولولا محكمات الله ومتشابهاته ما كان هناك معنى للإيمان بالغيب، وما كان هناك معيار للتفاضل بين القوم : أيهم يكون أمةً وسطاً، وأيهم يكون في أعلى عليين أو أسفل سافلين، ذلك ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
بقليل من النظر، وبأدنى درجات التأمل تجد الكون مُحكَماً في خلقه يتبع قانون الله وسُننه القديمة، فالشمس والقمر والنجوم والكواكب، كلٌّ في فلك يسبحون، هم في خلقهم ودورانهم وليلهم ونهارهم وفصولهم ومواسمهم مُحكَمون، لا يفترون ولا يتوانون إنما هم بعضهم لبعضٍ يطلبون، ويتحاثُّون ولا يتداركون، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه إن كنتم في خلقه تتمارون، ولكن فئةً من الملحدين يقولون أن الكون يعمل بطريقةٍ آليةٍ وفق قوانين قديمة هي من طبيعة مادة الخلق الأزلية وما لها من خالق ولا بارئٍ ولا مهيمن ولا قيوم، ونحن نراها وقد دُبِّرت شؤونها من غير مدبر وقد رآها من قبلنا السابقون، والناس تولد من الناس والأبقار من الأبقار والحمير من الحمير، حتى أسماك الماء وهوام الصحارى ومفترسات الغابات وفرائسها، كلٌّ حسب قانونه الطبيعي يتكاثر ويتعايش، فما للإله وما لهذه العوالم، وكيف له أن يكون ربَّ العالمين ؟ ويبغون أن يدركوا ذاته كما يدركون ذواتهم، ويقيسون قدرته على قدراتهم، وهم في ذلك من أشد المخطئين الضالين.
ومنهم من ينظر لصحيح سليم، ومريض سقيم، أخذ الموتُ السليمَ وترك السقيم، هو يعاني ولا يكاد يفيد، وذووه من حوله يتألمون، وهو عبءٌ عليهم، وهم منه لولا المرحمة يكادون يضجرون، ومن خدمته وطلب شفائه في كل مشفىً يطلبون.
ومنهم من يتوقف فهمه أمام قانون الغلبة والقوة والهيمنة، فيرى قوماً منعَّمِين مكرَّمين، وقوماً سواهم أذلاء مهانين، من غير فضلٍ تفضَّل به المنعمون المكرمون، ولا جريرة ارتكبها الأذلاء المهانون، فتجول خاطرةٌ في خاطره، وربما نطق بها لسانه، ورفع بها عقيرته، وراح ينشرها في كل سوق، وينادى في كل بوق، ويصعد كل جبل، ويعتلى كل منبر، وينادى في الناس متسائلاً : كيف تكون حكمة في رفع قوم وحطِّ آخرين، بلا برهان واضح أيها القائلون بالخالق والقيوم المدبر، يا أيها العاقلون ؟! فمال إليه قوم أكثرون ، وبات قوم آخرون في حيص بيص يضربون كفا بكف، ويحار معهم الفكر، وتكل القرائح عن التوصل لحل فيما يرومون ويقصدون،
ذلك كتاب الله المنظور، يهدي الله به من يشاء، ولا يزيد الظالمين به إلا خساراً.
أما كتاب الله المسطور فقانونه ذات القانون، منه المحكَم والمتشابه، فهو كتاب أحكمت آياته من لدن حكيم خبير، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخَرُ متشابهات إلى أمهاتهنَّ يَعُدْن، وعلى ضوئهنَّ يفهمن، فإن العِرق دساس، ونسبة المتشابهات للمحكَمات كنسبة الأعمى للبصير، هو له قائد ودليل، وعليه مدار حياته وحفظه وصلاحه وفلاح أمره، وبدونه فساده وضياعه وهلاكه.
ومثال المحكمات من كتاب الله الفرقان، وآيته العظمى القرآن (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون) والخلد طول البقاء، وبقاء الآدميين في الأرض ـ أحياءً ـ سنة إلهية قديمة، ليس فيها عظيم تفاوتٍ في الأعمار بين الأولين من لدن آدم، والآخرين إلى يوم القيامة، تلك من المحكمات، ثم يقرأ في كتاب الله قوله تعالى في حق عيسى عليه السلام ) يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ )، فيقول في نفسه أن الرفع خُلد، لأنه طول مُكث وبقاء من قبل زمان الرسول إلى آلاف السنين وإلى يوم الدين، ولا يعيد ما تشابه عليه من فهم الرفع، إلى ما أحكمه الله له من انتفاء الخُلد بلا استثناء أحد من العالمين، وأنه لابد لتفادي التناقض بين الآيتين أن يُفهم الرفع كما هو رفع الدرجات والمناقب، لا رفع الأجسام والمحسوسات.
كذلك قوله تعالى { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة 191)}، فمن قرأها يدرك منها أن القتال لا يجوز إلا في حق المقاتل المعتدي، وأنه علينا أن نسالم الناس ما داموا لنا مسالمين، ويدرك ويستقر في نفسه، أن أي قتال يخرج عن قاعدةٍ قعَّد لها الله في كتابه بهذه الآية فهو اعتداء لا محالة، فإذا أخذ يقرأ قوله تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة 29) }، أُسقِط في يده، ولم يدْرِ ما هو فاعل، أيمتنع عن قتالٍ إلا من قاتله واعتدى عليه ليرد عدوانه، ويذيقه من كأسه الذي منها يسقي غيرَه؟ أم أنَّ عليه أن يقاتل كلَّ من لم يكن بالله مؤمنا ولا بيومه الآخر، ولا يحرم ما حرمه، ولا يدين بدينه من غير اعتداء منهم ولا سابق قتال ؟ فيدَّعي على ذلك أن كتاب الله يحث على الشيء وضده، وليس فيه للناس هُدىً كما أخبر في آياته الأولى، إنما هو يوقعهم في حيرة من أمرهم، ويسبب لهم العنت والمشقة والحرج، فلا يدرون ماذا يعملون، وكيف يكونون لله من الطائعين، وكيف يُخرجون من زمرة العصاة الطاغين!
لكنه لو تفكر قليلا وكان من المتدبرين، وكان ممن يعلمون كمال الله وقديم حكمته وكان بذلك من المستيقنين، لَعلِم أن كلامه لا يناقض بعضُه بعضا، ولا تكون آياته لآياته من المخالفين، وأن العدل من أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، ولا يجوز في حقه الهضم والظلم والإكراه حتى في عبادته وطاعته، فلأنه يحب عباده، فيريد أن يأتوه طوعاً محبين، لا كرها مرغَمين، وأنه يأمرنا بالعدل ما دام الناس لا يعتدو ، وبالإحسان مع الذين لا يحسنون، وإيتاء ذي القربى مع الذي علينا يبغون، أما الذين يقاتلون في الدين ويريدون أن يخرجونا من ديارنا، فهؤلاء هم الذين نقاتلهم ونرد عدوانهم إلا أن يهتدوا ويكونوا من المسلمين، وأما الآية الأخرى من سورة التوبة التي تقول بقتال الذين لا يؤمنون، فإنهم هم هم الذين ذكرتهم الآية الأولى آية البقرة، أي الذين يقاتلون ويعتدون.
وهكذا لا نظرَ في المتشابه من الآيات إلا بعين المحكم منها إن كنتم تعلمون ،ومن ذلك في كتاب الله كثير
وكما كان الكون كتابَ الله المنظور،وكان القرآن كتابه المسطور، كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي يمشي على قدمين، يتنفس الهواء ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لم يُنزل الله كتابا إلا أرسل الرسول الذي يتخذ الكتاب له أسوةً ومنهاجا، فيكون الكتاب بين يدي القوم كتابين، أحدهم في الأوراق بين دفتين يقرؤونه بأبصارهم، ويسمعونه بآذانهم، وتعيه قلوبهم، والآخر ترجمان عمليّ، وبيانٌ واقعيّ، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، فظهر لقومه ومن سُننه أنه كان أعظم المبعوثين، وأكمل المرسلين، كما سماه القرآن خاتم النبيين، فالتقت الشهادتان، وتعانق الكمالان.
تنبأ عن كثرة مؤيديه وكثروا، وعن اضطهادهم في مكة واضطُهدوا، وعن هجرتهم وهاجروا، وعن نجاتهم ونجوا، وعن انتصارهم في بدر وانتصروا، وعن هزيمة الأحزاب وهُزموا، تلك كلها محكمات، ثم لما تنبأ بالفتح العظيم والعمرة لبيت الله الحرام ورجعوا بلا فتح ولا عمرة كانت وقفة وهزة وزلزلة، وظنوها دنيَّة في الدين، وغضبوا وعصوا، تلك من المتشابهات، لكنهم ما لبثوا في تلك الحيرة، ولا استبدت بهم الظنون، إذ سرعان ما أكد أبو بكر أنه هو رسول الله، وأن ربه الكامل يسيِّر أحداث العالم وفق ما تستدعيه مصالح المؤمنين، وأنه وجبت له الطاعة لذلك، فتذكر عمر أنه قطع معه عهد بيعةٍ أن يكون من الذين يؤمنون بالغيب وعلى ربهم يتوكلون، فحلقوا إذ حلق، ونحروا إذ نحر، وسمعوا وأطاعوا، وفوَّضوا ما لم يَخبُروه ولم يسبروا غَورَه إلى الله.
ثم كان المسيح الموعود عليه السلام ، فلم يكن بدعا من الرسل، وإنما كان له ما كان لهم، وامتنع عنه ما كان ممتنعا عنهم، تنبأ آلاف النبوءات، وقد تحققت، ولكن لم يرها إلا من كان منارةً بيضاء، منارةً منيرةً من نوره، وبيضاء القلب سليمة الفطرة، فهدى الله به كثيراً، وأضل به كثيرا، كما هو الكتاب المنظور، والكتاب المسطور، والنبيّ الخاتم المقتدَى المأمور، تنبأ عن موت أحمد بيك في مدة محدودة بل في أقربها وقد مات، وتنبأ عن هلاك أسرته واحداً تلو الآخر أو يرجعون، فمات من مات، ورجع إلى حظيرة الإسلام من رجع، وتلاقحت الأرواح وزُوَّجت النفوس، وتلك محكَمات، ولكن المماحكين المتمسكين بالشبهات يطلبون مُلحِّين تلاقح الأجساد، وتزاوجَ الأبدان، فمنهم سعيدٌ، مَن فوَّض وقال : يكفيني ظل المحكمات، ومنهم شقيٌّ ، مَن ظل دؤوباً غارقاً في ظلمات وفك طلاسم المتشابهات.
أفلا ينظرون إلى البراهين الأحمدية كيف كُتبت، وعلى صفحات الكُتب كيف سُطرت، وفي المطابع كيف طُبعت، ومن أجلها كيف الناس أنفقت، ومن مالها كيف بذلت، والنساء عن حُليِّها كيف تخلَّت، ومن أجلها أمسى كل غالٍ رخيص؟ فلم يكن للمسلمين نور يمشون به بين الناس مرفوعي الراس إلا بصيص، رأوا في البراهين الأحمدية النور المأمول، والأمل المفقود، كانت عكازاً لعَرَجهم، وعيوناً لعماهُم، وآذاناً لصمَمِهم، وشمسا مشرقة لسرمد سواد ليلهم، وقمراً منيراً يمزق حلكة ظلام أفئدتهم، فاستقبلوها استقبال العقيم الذي جاءه الولد وقد وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيبا، وكانت امرأته عاقراً، فاحتضنوه وله علت زغاريد نسائهم، وافترَّت ثغور رجالهم، واستقامت ظهورهم بعد انحنائها، وتجلت وجوههم بعد مواراتها، واحتدّت أبصارهم بعد عَمَشها، وسُمعت أصواتهم بعدم كانوا بُكماً.
برهنت البراهين أحقية الإسلام وصدق النبوة المحمدية، وبرهنت على صدق صاحبها ومُلهَمِ علومها، وسجَّل إيمان القوم بها إيمانَهم به، واعترفوا له بالإلهام والوحي في اعترافهم بها، كان لهم الغوث الذي نهلوا منه أول ما لمحوه، لكنهم ـ يا حسرةً عليهم ـ تنكروا له بعد رشفة، ظنوها شربةً هنيةً بعدها لا يحتاجون إليه، ولا يظمؤون، ولا يدركون أنهم حرموا أنفسهم شراباً زلالاً، كانت قد روَت غليلَهم منه قطرة، اسمها البراهين الأحمدية
ليتكم صبرتم ، فكم معه من براهين أحمدية !
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.