loader
 

دم المسيح ..! 1

دم المســيح.. ! 

هل ما زال ينـزف من جنبه المطعون على صليب مضطّهديه الذين أرادوا قتله خوفاً على دينهم من بشائر السلام التي جاء بها إلى الناس فعلَّمهم أن يُصلّوا مؤمنين: ’المجد للـه في الأعالي .. وفي الناس المحبة .. وعلى الأرض السلام‘؟
أتُراهم أرادوا قتله خوفاً من أن تجمع الناسَ المحبةُ؟
أَم أنهم أرادوا صلبه خشية أن يعمّ الأرضَ السلامُ؟
جاءهم المسيح بالإنجيل، وهو بشارة اللـه إليهم: أنهم إذا أقاموا كلّمة اللـه وعملوا بوصاياه، كان لهم الملكوتُ خالدين بإيمانهم، ناعمين في جنات أعمالهم.
جاء المسيح إليهم وكانوا قساةَ القلوب يملؤهم الغرور والتعالي، فأوصاهم مبشِّراً:
{طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ} إنجيل متى 5 : 7

وعلَّمهم التواضع قائلاً:
{طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.} متى 5: 3
{طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ} متى 5: 5


ووَجد أنّ العداوة والبغضاء تملأ قلوبهم وتحفِّزهم لقتل وتمزيق بعضهم بعضاً، فقال لهم:
{لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا} متى 5: 39

وأمرهم بالحب حتى لأعدائهم:
{أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ} متى 5: 44

وبيَّن لهم أنّ أبناء اللـه حقاً من عباده المؤمنين هم صانعو السلام، فقال:
{طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ} متى 5: 9

كما بيَّن لهم أنّ صانعي السلام هم ليسوا من يمتنعون عن الإساءة إلى عدوهم فحسب، بل إنما هم الذين يُحسنون إليه أيضاً:
{فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ} رومية 12: 20

وهكذا يُعلِّم الكتابُ المقدَّس المسيحيين المؤمنين الحُبَّ والتسامح والسلام للناس جميعاً لأنهم من دم واحد:
{وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ} أعمال الرسل 17: 26

ولأن اللـه إله واحد وهو بمثابة الأب الواحد للناس جميعاً:
{إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ} أفسس 4:6

ولم يكتفِ الكتاب المقدّس بتعليم المؤمنين الحُبَّ والسلام، بل حضّهم على ألاّ يُقابَل شرٌّ بشَرّ:
{انْظُرُوا أَنْ لاَ يُجَازِيَ أَحَدٌ أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ} تسالونيكي 5:15

وأَمَرهم أن يتوجّه بعضُهم لبعضهم الآخر بالخير بدل المجازاة بالشرّ:
{اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ} 1 تسالونيكي 5: 15

وحذَرهم ألاّ يملأهم الغرور وينفخهم التكبُّر، لأنّ اللـه يغضب ويحارب المستكبرين:
{اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ} بطرس 5: 5

وحذَّرهم من النفاق في ادّعاء الحب للـه، فقال:
{إِنْ قَالَ أَحَدٌ:«إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ} 1 - يوحنا 21:4

ثم بيَّن لهم أنّ حقيقة حب اللـه إنما تكمن في حب الإنسان لأخيه الإنسان:
{إنّ مَن يُحبّ اللـهَ يُحبّ أخاهُ أيضاً} 1- يوحنا 4: 21

وعلَّمهم أنّ من يريد أن يثبت في محبته للـه فإنّ عليه أن يثبت في محبته للناس، فقال:
{اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ} 1- يوحنا 4:8

* اضطهاد المحبة.. تعذيب الرحمة.. وقتل السلام !

فعلوا ذلك في شخص المسيحيين المؤمنين بدءاً من أتباع المسيح الأوائل من تلاميذه وحوارييه وحتى الماضي القريب والحاضر القائم أيضاً!
آمن المسيحيون بالمسيح عليه السلام، وتعلَّموا منه الدين:
كانوا رحماء كما علَّمهم، وكانوا مساكين بالروح عملاً بتعاليم دينهم. لم يقاوموا الشرّ.. أحَبّوا أعداءَهم.. بارَكوا لاعنيهم.. وأحسَنوا إلى مبغضيهم. صلّوا لأجل الذين كانوا يُسيئون إليهم ويطردونهم.. صنعوا السلام لكي يُدعوا أبناء اللـه كما بشَّرهم المسيح عليه السلام. وكانوا إذا جاع عدوُّهم أطعموه.. وإن عطش سقوه. وآمنوا أنّ الكلّ من دم واحد من كلّ أمة وجميع الناس. وآمنوا أنّ الإله واحد. وأنه آب للكلّ.
لم يجازوا عن الشر بالشر. بل اتبعوا الخير بعضهم لبعض وللجميع. وآمنوا أنّ من يحب اللـه يحب أخاه الإنسان، وإن لم يفعل ذلك فهو كاذب. وآمنوا أنّ اللـه محبة.. وأنه رحمة.. وأنّ دينه السلام.
فاضطهدوهم!
عذَّبوهم!
وقتلوهم!
وبذلك كانوا يقتلون، في المؤمنين الرحماء من المسيحيين الأوائل، المحبةَ والرحمة والخير والسلام—والتاريخ يشهد.

* من تاريخ الاضطهاد الديني

اقرؤوا تاريخ الإرهاب والاضطهاد (الديني) الذي أوقعه أرباب العداء لحرية الدين والمعتقد، وسيَعصر الألمُ قلوبَكم، وتطفر دموعُ الحزن والأسى من عيونكم.
قلِّبْوا صفحات الكتب التاريخية والوثائقية، تَرَون أنها تروي صُوَر الاضطهاد الظالم البشع والتعذيب الوحشي الكاسر الذي عاناه المؤمنون الأوائل بالمسيح عليه السلام؛ وقد ذَكر القرآنُ الكريم بعضَهم، فتحدَّث عن حرقهم وتعذيبهم، لا لذنب جنوه بل لمجرّد أنهم آمنوا باللـه العزيز الحميد! ويصوِّر اللـهُ عزّ وجل في كتابه المجيد التعذيبَ الظالم لهؤلاء المؤمنين فيقول:
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} البروج 2-10
وهكذا يصف القرآنُ الكريم هَولَ هذا الإرهاب (الديني) الوحشي الذي أوقعه الطغاةُ على المؤمنين من المسيحيين الأوائل.

كما نقرأ في القرآن المجيد القصةَ القرآنية عن (أصحاب الكهف) وهم أيضاً من المسيحيين الأوائل الذين تمّ اضطهادهم لمدة تزيد على ثلاثمائة سنة. ومعروفة هي الأماكن التي تمّ تعذيب هؤلاء المساكين فيها—مسارح المدرّجات الرومانية التي بُنيت من أجل تمتّع رجالات السّلطة الرومانيين بمشاهد مصارعة العبيد والأسرى مع الأسود والثيران الهائجة حيث كان يُلقى فيها المسيحيون، العُزَّل من كلّ قوة أو سلاح، إلى الحيوانات الجائعة التي كانت تقفز عليهم مزمجرة، وتلتهمهم وهم لا حول ولا قوّة لهم في هَربٍ أو نجاة!

كانت قلوبُ وصدور المسيحيين تُخترق بقرون الثيران المـُثارة الهائجة، وكانت أجسادهم الهزيلة الواهنة تُسحق تحت حوافرها الثقيلة حتى الموت؛ في حين كان الرومان المبتهجون يعودون بعد تلك المهرجانات الدموية إلى بيوتهم مقهقهين ومنتشين—فلقد تمّ عقاب أتباع دين عيسى المسيح كما يجب!
ولكن في الوقت الذي كانت فيه أرجل المسيحيين ترتجف بِوَهَن، كانت قلوبهم تنبض، بكلّ قوة، بالإيمان باللـه الواحد الذي أَرسل إليهم رسولَه المسيحَ عيسى بن مريم بدين الرحمة والمحبة والسلام.

استمرّ هذا الإرهاب (الديني) والاضطهاد الوحشي من حين إلى آخر لمدة تزيد على ثلاثة قرون. وعندما لم يجد المسيحيون مكاناً يحتمون فيه، لجأوا إلى كهوف (الكتاكومز) الشهيرة تحت الأرض. عاشوا في المتاهات التي لا تزال موجودة حتى اليوم، وهي تُذكّرنا بأنّ المسيحيين الأوائل استطاعوا أن يعيشوا مع الحشرات والعقارب والأفاعي السامة، في حين لم يستطيعوا العيش مع أرباب الإرهاب (الديني) بثيابهم الجميلة الفاخرة، وابتساماتهم الساخرة، وملامحهم الوسيمة.
 
ونقرأ في كتاب أنطونيو غالونيو (عذابات وآلام الشهداء المسيحيين) عن القديسين الذين كانوا يُعَذَّبون بطرائق شيطانية تشمل جميع صنوف العذاب المخصّصة للمجرمين والخونة الذين كانت تعدّهم الدولةُ الرومانية أعداءً لها. حيث يروي صاحب الكتاب كيف أنّ المسيحيين المؤمنين كانوا يُفضِّلون -وباختيارهم- تلك العذابات على تقديم الولاء للآلهة والأوثان الرومانية.
ويُعلِّق بيرنهارت ج. هروود صاحب كتاب (التعذيب عبر العصور) على القسوة والإفراط في تعذيب المسيحيين في الاحتفالات والأعياد الرومانية فيقول:
"وعلى الرغم من أنّ الإنسان المعاصر قد فاق الرومان فيما يتعلّق بالقسوة المجرّدة، إلاّ انه حتى رجال السينما في هوليوود لم يستطيعوا محاكاة عظمة الحفلات الخيالية التي أغرقت الإمبراطورية الرومانية ذات يوم بالدماء"!
كان الرومان في احتفالاتهم يُلقون بالأسرى والعبيد من المسيحيين إلى الوحوش الضارية الجائعة، ويتلذّذون مع ضيوفهم وجماهيرهم وهم يرون هذه الوحوش تُمزِّق المسيحيين المساكين بالمخالب والأنياب وتفترسهم، بشراهة مريعة، جزاءً لهم على إيمانهم باللـه وكفرهم بالآلهة والأوثان الرومانية ومَن يريد فرضها عليهم بالإكراه!

ومن الجدير بالذكر أنه بعد اكتشاف هؤلاء الطغاة لحقيقة أنه ما مِن وحشٍ يمكن أن يهاجم البشر ويأكلّهم بشكل غريزي، سخَّروا مدرّبين مختصين لدفع هذه الوحوش وَوَخْزِها وتعذيبها بعد تجويعها إلى أن تعلّمتْ أنّ انقضاضها على النساء والرجال العُزّل العاجزين وتمزيقهم وأكلهم هو فرصتها الوحيدة للخلاص من الضرب والوخز والتعذيب، وبالتالي البقاء على قيد الحياة.
وهكذا سجَّل التاريخ أنّ تعذيب وتقتيل المسيحيين، في الدولة الرومانية، كان جزءاً من التسلية والرياضة العاديّة في المناسبات والاحتفالات المختلفة! ولم يكن ثمة نوع من العذاب يمكن للمسيحيين المساكين أن يجتنبوه!

كان بعضهم يُعَلَّقون من أصابعهم فوق نار خفيفة ثم يُجلدون أو يُسلخون أحياء .. وكان بعضهم يُجبَرون على ارتداء دروع وخُوَذ مُحمّاة حتى الاحمرار. كانت الألسن تُنتزع، والنهود تُقتلع، والأحشاء تُستخرج ثم تُطعَم للوحوش الجائعة حتى قبل أن يموت أصحابها! هذا وإنّ أدقّ وصف لهذه العذابات الغريبة يمكن أن يُقرأ في تاريخ الكنائس، وبشكل خاص في سِيَر الشهداء العديدة .
وهكذا تعدّدت اضطهادات وعذابات المسيحيين مع تعدّد واختلاف الطغاة في كلّ خَطوٍ تاريخي يرصد هذه المجازر الوحشية البشعة باسم اللـه والدين والمعتقد، حتى أنّ بعضهم كان يُسمّي أمثال هذه المجازر (مَسلخ اللـه) —سبحانه وتعالى عمّا يصفون!
ويعلّق هروود صاحب كتاب (التعذيب عبر العصور) على هذه المآسي البشرية عبر التاريخ، فيقول:
"وهكذا كان الأمر ينتقل من وحشية إلى فساد ثم عود على بدء. وما حدث في النهاية نعرفه كلّنا. ليس فقط أنّ روما تبنَّت عقيدة أتباع المسيح.ـ الذين عذَّبتهم، بل إنهم هم—المسيحيون—قد تبنّوا روما! ويا له من أمر مثير أن تصبح لغة أسوأ مضطَّهِدي المسيحية هي لغة الكنيسة، وأن تكون عاصمة هؤلاء المضطهِدين هي المنصب الأسمى في البابوية! ولربما كانت قصة كهذه ملائمة لطرح عدالة مثالية عظيمة. ولربما كانت المفارقة الحقيقية كامنة في مكان آخر: فبعد قرون قام الأحفاد الروحيون لأولئك الذين ماتوا تحت التعذيب دفاعاً عن عقيدتهم، باستخدام الوسيلة ذاتها - والأمر كلّه باسم العقيدة" .

* ما بعد الرومان

لم يكن الرومان مضطهِدي المسيحيين الوحيدين، بل جاء بعدهم الكثير ممّن أوقع العذاب على أتباع المسيح الذين تمسَّكوا بإيمانهم بكلّ شجاعة وثبات. ويقرأ المطَّلِعون وصفاً تفصيلياً لمجزرة يابانية غاية في الوحشية والقسوة ضد المسيحيين حدثت في ناغازاكي في أيلول 1662م.
يتحدث عن هذه المجزرة شاهدا عيان أوروبيان هما (فرانسوا كارون) و(جوست كورتين)، فيصفان القتل والتعرية والإحراق والإلقاء في حفر مليئة بالأفاعي السامة وإجبار الآباء على قتل أولادهم أو حرقهم بأيديهم وإطلاق المئات من المسيحيين من النساء والرجال بعد وَسْمِهم بعلامات خاصة يحرقون بها جباههم كي تتمّ معرفتهم، ويتم صيدهم كالحيوانات .
ويذكر المؤرخون والمحققون أنّ أمثال هذه الممارسات الوحشية القاسية قد نجحت—بسبب استمرارها—في إجبار الكثيرين على التنكّر لأديانهم ومعتقداتهم.

 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة