loader
 

دم المسيح ..! 2

* الاضطهاد المسيحي- المسيحي (المقدّس)

في معرض تعليقه على سفر الرؤيا 17:6 يقول ماثيو هنري في تفسيره المختصر للكتاب المقدس:
"We cannot but wonder at the oceans of Christian blood shed by men called Christians!"
أي: "لا يسعنا إلاّ الاندهاش من بحار دماء المسيحيين التي أهرقها أناسٌ يُدعون بالمسيحيين أيضاً!"

ويقول بيرنهاردت ج.هروود في معرض سرده للاضطهاد والتعذيب عبر العصور:
"وعلى الرغم من أننا لا نحبُّ أن نعترف، إلاّ أنّ أسوأ الفظاعات التي ارتكبها أسلافنا الأوروبيون إنما ارتُكِبت باسم الرب والوطن والصالح العام" .
ونجد مصداقاً لهذا الاعتراف الملفت في ما يُسمّى بـــ (الاضطهاد الصالح) الذي يتحدث عنه القديس أوغسطين الشهير، فيقول:
"هنالك الاضطهاد الصالح، وهو الاضطهاد الذي توقعه الكنيسة على الفاسقين. إنها تضطهد بروح الحب، فلعلها تُصلِح وتُصحِّح .. وتستعيد الناس من الخطأ، وتسعى إلى صالحهم لتؤمّن لهم الخلاص الأبدي."

ويتابع هروود سرده لتاريخ الإرهاب الديني لدى أسلافه الأوروبيين فيقول إنه في العصور الوسطى—وبعدها بزمن طويل أيضاً—لم يكن ثمة ما يُعتبر رهيباً لدى الكنيسة ورجال الدين أكثر مما يُسمى بالجريمة بحق الرب. فجريمة كهذه تَستنـزِل عقوبةً سماوية على المجتمع ككلّ! ولذلك كان لابدُ من التعامل مع المذنبين فوراً، وقبل حدوث الكارثة. إنّ للجريمة أنواعاً عديدة، ولكن كان لها عندهم اسم واحد (الهرطقة). ولقد كان في أذهان العامة أنّ النهاية المنطقية للهراطقة هي الموت مع الألم الشديد!
وعلى الرغم من أنّ الكنيسة—إلى أيام محاكم التفتيش—كانت تتخذ موقفاً متسامحاً نسبياً، وكانت تُعاقِب الهرطقة بالكفارات والحرمان من الحقوق الكنسية، إلاّ أنّ العامة كانت تطالب بالدم؛ هذا رغم وجود مواقف مختلفة كموقف القديسة (هيلديغارد) التي كانت تصرّ على أنه حتى الهراطقة هم أبناء الرب، ويجب ألاّ يُحرم أيٌّ منهم من حياته. غير أنّ دعوة هذه القديسة من أجل هؤلاء الخاطئين لم تُحقق نفعاً كبيراً، فالقليل من (الهراطقة) من نجا بحياته، إذ كان معارفهم يمسكون بهم ويُعذِّبونهم حتى الموت، وبالنار عادةً! / المرجع السابق ص 48

ولكن مع مرور الأيام، ومع انغماس السلطات الكنسية في أمور غير روحية تغيَّرت الظروف، حيث كان الملوك والأباطرة والأساقفة والباباوات يتنافسون فيما بينهم على الممتلكات والإقطاعيات والثروات والسّلطة. وكانت للكنيسة الكلّمة العليا، لأنها تمسك بمفاتيح أبواب العالم الآخر! وكلّما شكّل أفراد أو جماعات خطراً من أي نوع كانت الكنيسة تقف في وجوههم بغض النظر عن المركز أو العمر أو الجنس.

ونجد مثالاً وافياً لذلك في مذبحة (الألبيجنسيين Albigenses) وهم أبناء طائفة دينية ظهرت في جنوب فرنسا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وجاء اسمهم هذا من المنطقة التي كانوا يعيشون فيها، وقد بدأت حملة الاضطهاد (الديني) ضد أبناء هذه الطائفة عام (1209م) واستمرت حتى القضاء التام عليهم عام (1244م) .

لم يُقدِّم أبناء هذه الطائفة ولاءهم لروما، وقد تناموا إلى درجة أنّ البابا (ألكسندر الثالث) أصدر في المجلس المسكوني الحادي عشر عام (1179م) فتوى كنسية ضد أتباعها. وبدأت حملة صليبية ضدهم انتهت، بعد خمس وستين سنة، بحرب مدمرة كانت نتيجتها مذبحة هائلة لمن تبقّى من (الهراطقة) في برج (مونتسينيور) في (لانغيدوك) في فرنسا .
ونقرأ في كتاب (الحكم بالسرّ) للكاتب الأمريكي جيم مارس وصفاً للأهوال التي تعرض لها المسيحيون الذين كان يعدّهم البابا كفرة وهراطقة كما يلي:

"شهدت لانغويدوك أوّل حدث من الإبادة البشرية الجماعية الأوروبية، حيث تمّ ذبح 100,000 فرد من الكاثاريين بناءً على أمر البابا خلال الحملات الصليبية على الألبيجينسيين Albigensian..
وعد البابا إنوسنت بامتياز حالة حرب status صليبية عنيفة لكلّ من ينضم إلى جيشه. وكان هذا يعني كليهما: الحِلّ من أيّة آثام وخطايا تُرتكب أثناء العملية، بالإضافة إلى حصّة في أيّ غنيمة حربية .. ورأى الكثيرُ في ذلك فرصةً للسلب والنّهب والربح الكبير، ولم يكن ثمة سعي لجعلهم ييأسون بشكل كامل، فقد كان الصليبيون مُحفَّزين، بشكل أساسي، بالحماس الديني.
نُهبت الكنيسة والمدينة كلاهما، وذُبح السكان، وقُتل الكهنة، والنساء والأطفال داخل الكنائس .. وعندما صادر قادة الجيش الغنائم من أجناد المعسكر تمّ تدمير وإحراق المدينة." وبحسب تقرير رسمي فقد تمّ ذبح عشرين ألفاً من السكان ..
وسرعان ما اجتمع جيش البابا، "أكبر جيش يتمّ جمعه في العالم المسيحي" في ليون تحت قيادة آرنالد-آمالديك بالإضافة إلى عدد من النبلاء والأساقفة.
عندما تحركت هذه القوة الهائلة—حوالي ثلاثين ألف متحمس—انحدروا إلى وادي رون. كان لدى ريمون أفكار ثانية وقرر الانضمام. بعد التعهد بالانضمام إلى الحملة الصليبية، تصالح ريموند مع الكنيسة ووعد بالحصانة من الهجوم.
جاء أوّل هجوم شامل على مدينة بيزيرس. هنا، وبالرغم من دعوة أساقفتهم ليستسلموا، قرر أهل المدينة المقاومة. وبحسب كوستن، فقد اقتحم أجناد الجيش الملهوف على الغنائم بوابات المدينة وسرعان ما انضم إليهم العاملون بدون أوامر: نُهبت الكنيسة والمدينة كلاهما، وذُبح السكان، وقُتل الكهنة، والنساء والأطفال داخل الكنائس .. وعندما صادر قادة الجيش الغنائم من أجناد المعسكر تمّ تدمير وإحراق المدينة. وبحسب تقرير رسمي فقد تمّ ذبح عشرين ألفاً من السكان ..
لقد كانت (هذه المجزرة الدينية) في ’بيزيرز‘ و عندما سئل قائد الحملة البابوية آرنالد-آمالريك، كيف تستطيع قوّاته أن تميّز بين الكاثوليكيين والهراطقة، أجاب آمراً: "اذبحوهم جميعاً، فالله يعرف خاصّته"!
وفيما يتعلق بمذبحة بيزيريه، فقد سقطت مدينة إثر مدينة في جميع لانغويدوك أمام الجيش البابوي بدون حرب. كان الصراع الداخلي منتشراً عندما تسابق السكان في تسليم الهراطقة المعروفين أو المشتبه بهم. في مدينة كاستريه، أُحرق الكاثاريون، المسلِّمون إلى الجيش البابوي، على الخوازيق، وهي الممارسة التي استمرت، فيما بعد، طوال الحروب/الحملات الصليبية."


في ذلك الحين كانت محاكم التفتيش قد تأسست وانتشرت فروعها القوية في كافة أنحاء أوروبا مثل شجرة زقّوم هائلة. وصارت السياسة مسألة أكثر ضغطاً من الإيمان إلى حد بعيد. وبرزت تحاملات وصراعات، فكان ثمة من يتصارعون مع الكنيسة ويتصارعون فيما بينهم، وكان الخوف في جميع هذه المجالات هو السلاح الأكثر فاعلية، وكان التعذيب من أفضل الوسائل للإبقاء على السيطرة، ولذلك فقد استخدمه الجميع وبشكل مفرط!
وحين بدأت محاكم التفتيش في النصف الأول من القرن الثالث عشر لم تحكم على (الهراطقة) بالحرق. فقد كان المحققون أكثر حساسية من أن يفعلوا ذلك. كانوا رجال دين منضبطين غير معنيين إلاّ بشنِّ الحرب ضدّ (أعداء اللـه) والكنيسة! وكان رئيس اللجنة القضائية يعلن عند النطق بالحكم على (مهرطق) قائلاً:
"بما أنّ الكنيسة لا تستطيع أن تفعل شيئاً بمهرطق من نمطك فإننا نحيلك إلى المحاكم الدنيوية، ومع ذلك فإننا نوصيها، بالسّلطة التي لنا عليها وحسب مقتضيات القانون، أن تحافظ على حياتك وعلى أعضائك من خطر الموت إذا ما اعترفتَ اعترافاً كاملاً بتهمة الهرطقة المنسوبة إليك" .
ولم تكن المحاكم الدنيوية تُلقي بالاً لهذه التوصية، كما أنّ أحداً لم يتوقّع منها ذلك. وإلى جانب ذلك فقد كانت ثمة سُبل لانتزاع الاعترافات من أولئك الذين يرفضون الكلام، وذلك لأن ثمة فتوى بابوية كانت في القرن الثالث عشر تسمح باستخدام التعذيب. وقد تسلّطت محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال إلى حدٍّ أصبح فيه هذا التسلط حُكماً سياسياً قوامه التعذيب والإرهاب.

* وكر التعذيب

ويصف الواصفون بأنّ مجرد النظرة إلى غرفة التعذيب كانت كافية لدفع الإنسان إلى الاعتراف. فقد كانت عبارة عن قبو معتم، دون نوافذ تحت الأرض، لا يضاء إلاّ بشموع ضئيلة عند الحاجة وعند الدخول الأول للسجين إلى زنـزانته، وذلك كي يلقي نظرته الأولى على معذبيه .. كانوا متلفّعين بالسواد وغارقين في صمت جلمودي، يخفون ملامحهم بأقنعة سوداء مخيفة لا تُظهر إلاّ عيونهم. ولمزيد من الإرهاب عند الوصول، كان السجين أو السجينة، يُعرّى أو تُعرّى دون اعتبار للإنسانية أو الشرف .
كان الأسلوب المفضّل في التعذيب هو المخلعة والبكرة والحديد المحمّى والجَلْد. ولم تكن ثمة وسيلة واحدة يمكن اعتبارها الأكثر قسوة. فالنظام ككلّ كان يقوم على التعذيب. وكان مجرد الوقوع في قبضة محاكم التفتيش يعني الحكم النهائي بالموت، لأنّ قِلّةً فقط استطاعت النجاة! وكان الجَلد شائعاً بالنسبة إلى هؤلاء السجناء مثل استنشاق الهواء! ويروي هروود صاحب الكتاب المذكور آنفاً عن شهود عيان أنه:

"لأقلّ خطأ كان يُجلد المسجون جَلْداً عنيفاً، يُعَرّونه ويُلقونه مكبّاً على وجهه على الأرض. ويمسك به عدة رجال وهو في هذه الوضعية بينما يقوم آخرون بجَلده بقسوة بالغة بحبال تزداد قسوتها بغمسها بالقطران حتى تصير قادرة على انتزاع اللحم مع كلّ ضربة وحتى يصير الظهر كلّه قرحة واحدة" .
ويقول بأنه كان ثمة تشكيلة واسعة لوسائل أخرى معقدة للتعذيب كانت تستعملها محاكم التفتيش في اضطهادها (الديني) (الصالح)!
ويشهد التاريخ مرحلة جديدة من الإرهاب والاضطهاد (الديني) مع بداية عصر الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر حين صار أتباع الحركة الجديدة أعداء ألدّاء للكنيسة الكاثوليكية. وقد كانت كلّ فئة منهما مصممة على قمع الأخرى بجميع الوسائل، وكان من المفضّل لكليهما اللجوء إلى العنف والإرهاب باسم الدفاع عن الدين والإصلاح والكنيسة. ولقد لخّص مارتن لوثر الحسّ العام حين قال:
"لا حاجة لأحد أن يظن أنّ العالم يمكن أن يُحكَم دون دماء. كان السيف المدني وعليه أن يكون دموياً".
ولقد كان الصدع العميق، الذي شقّ المسيحيين إلى معسكرين، قاتلاً بحيث أنه، حين كان يحدث الصدام المنتظر، كان الضعفاء يُسحقون دائماً، كما كانت الأقليّات عُرضة للاضطهاد الساحق بشكل مستمر!
وينقل هروود عن شاهد عيانٍ لمذبحة فرقة مسيحية اسمها (الدولدويون) من جنوب فرنسا نشأت عام 1170م فيقول :

"وهجم الجمع المسلح على (الدولدويين) بشكل عنيف جداً، ولم يكن لشيء أن يُرى إلاّ الرعب والأسى: دم يصبغ أرض البيوت؛ أجساد ميتين ملقاة في الشوارع؛ الصرخات والتأوهات تثقب الأسماع في كلّ مكان! وفي إحدى القرى عذّبوا بوحشية 150 امرأة وطفلاً وذلك بعد أن هرب الرجال، ثم قطعوا رؤوس النساء ونثروا أدمغة الأطفال" .

ولقد قرأ الناس عن أحداث مشابهة في أيرلندا عام 1642م عندما تم تقتيل البروتستانت الإنكلّيز، حيث شُوّهت أجساد الرجال والنساء والأطفال بعد أن رُجموا حتى الموت أو تم شواؤهم أحياء! بل كان ثمة ما هو أسوأ من ذلك، حيث بُقرت بطون الحوامل وأُخرجت الأجنّة منها، وأُجبر الأطفال على ذبح آبائهم وأمهاتهم، وأُجبرت الأمهات على ذبح أطفالهن، والرجال على ذبح نسائهم !
ويبيّن (جورج بيشوب) في كتابه (نيو إنغلاند تحكمها روح الرب) أنه حتى العالم المعاصر الذي يشاع عنه أنه مأوى من الاضطهاد (الديني) لم يكن في الحقيقة إلاّ جحيماً للمنشقّين، إذ عندما طوردت جماعة من (الكويكرز) خارج بريطانيا في القرن السابع عشر لأنهم اعْتُبِروا تهديداً للنظام، هربوا إلى أمريكا آملين أن يجدوا فيها الحرية والأمان، لكنهم بدلاً من ذلك لاقوا الاضطهاد القاسي في (نيو إنغلاند) من قِبَل (البيوريتانيين Puritans) الذين كانت ذاكرتهم قاصرة بشكل واضح.

وبزعامة الحاكم (جون انديكو) قام مستوطنو (ماساتشوستس) في أمريكا بتعذيب القادمين الجدد تعذيباً خالياً من أي أثر للرحمة. إذ لم يلاقِ هؤلاء المساكين الإذلال العلني فحسب، بل كانوا يُسجنون ويعُدمون أو يُباعون عبيدا أرقّاء !

* حرق الساحرات

وبالرغم من اختلاف الكاثوليك والبروتستانت إلى حدّ رغبة كلّ منهما في إفناء الآخر، إلاّ أنّ تاريخهما يشهد أنهما كانا متفقَين ضمنياً على اضطهاد الساحرات وإحراقهن وقتلهنّ باسم الدين!
ويذكر مؤرّخو تلك الأحداث كم كانت شنيعة وقاسية الفظاعات التي أوقعها صيّادو الساحرات على ضحاياهم إلى درجة لا يرقى إليها الخيال! وكما هي الحال في الطقوس الجماعية العنيفة، فقد تطوَّر الهوَس بتعذيب وقتل الساحرات تطوّراً بطيئاً. في القرون المسيحية الأولى كان السّحرة يُعدَمون بسبب جرائم محدّدة مرتكبة كالقتل. وكان السّحر في حدّ ذاته يُعدّ في مجمله نشاطاً متناقضاً مع المسيحية .

وحين بدأت محاكم التفتيش حربها على الارتداد والهرطقة، كان الذين يُتَّهمون بممارسة السحر غالباً ما يُعَذَّبون حتى الموت، ولكن ليس بصفتهم كسحرة بل كهراطقة. وتعود عملية الإحراق حتى الموت بشكل عام إلى رأي يُعزى إلى (بارتولوس) من (ساسوفيراتو)، وهو قاض يُعتبر من أهم العقول المسيحية المشرِّعة في القرن الرابع عشر. وقد أمر بإحراق الساحرات معتمداً على تأويل كلمات للمسيح، حيث يقول:
{إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ.} (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 15 : 6)

ومن خلال بيان البابا الشهير ضد السحرة، شهدتْ ألمانيا سلسلةً مروِّعة من عمليات القمع؛ ولقد هيمن الخوف الدائم من الاعتقال والتعذيب والموت الغامض على البلاد كلّها، وألقى بظلِّه المرعب الرهيب على كلّ من فيها.
كان الرجال والنساء والأطفال يُشوَّهون وتُقَطَّع رؤوسهم ويُحرقون أحياءً بالمئات. ووصل الجنون إلى درجة مروّعة بحيث أنه قام ذات مرّة أسقف (تريفيس) بإحراق معظم النساء في أبرشيته. ويُقدِّر أحد المؤرخين الألمان أنه خلال الحملة المسعورة على السحرة تمَّ قتل ما لا يقلّ عن مئة ألف شخص في تلك البلاد. ولكن (جانسين) في كتابه (تاريخ الشعب الألماني) يقول:
"من كلّ محرقة، كانت تبرز مجموعة جديدة من الساحرات" .

ويبيِّن (شارل مالكي) في كتابه (أوهام شائعة غاية في الغرابة) كيف أنّ الإرهاب (الديني) اتُخذ ذريعة في كلّ مكان من أوروبا لإلقاء الفرسان في السـجون ومصادرة ممتلكاتهم، ووضع المئات منهم على المخلعات وتعذيبهم حتى يعترفوا في النهاية بجميع تُهَم الهرطقة المنسوبة إليهم، فيتم بعد ذلك إلقاؤهم في النار على أنهم هراطقة مرتدّون. ويروي المؤلِّف كيف تم إحراق تسعة وخمسين من هؤلاء المساكين دفعة واحدة في نار هادئة في حقل من حقول ضواحي باريس وهم يصرخون ويحتجّون حتى آخر رمق، ويعلنون براءتهم من الجرائم المنسوبة إليهم، ويرفضون قبول العفو المشروط باعترافهم بذنوبهم المفتراة عليهم. وأخيراً، اختُتِم المشهد من هذه المأساة بإحراق الزعيم الأكبر (جاك دوموليه) ومساعده (غي) زعيم نورمانديا!

ويعلِّق (هروود) على هذه المآسي الاضطهادية باسم الدين فيقول:
"إنه لمن الصعب تصوّر ما هو أكثر بشاعة، وما هو معيب أكثر للسلطان، وللبابا الذي أيَّده، وللعصر الذي تسامح مع هذا الظلم الرهيب. إنّ تمكّن قلّة من الناس من اختراع تهمة كهذه هو أمر مُهين لكلّ غيور على جنسه. أما أن يقبله الملايين، فهو أكثر إهانة" .

ويؤكِّد المؤرِّخ (و. هـ. ي. ليكي) أنه لم يكن من الضروري دائماً اللجوء إلى التعذيب الفعلي للمتَّهمين لجعلهم يعترفون بالجرائم الملفّقة والمفتراة عليهم، فيقول:
"إنّ رهبة المحكمة وتوقُّع أشدّ الميتات شناعة، وتطبيق أقسى أنواع التعذيب على جسـدٍ ضعيف لامرأة عجوز واهـنة كان يجعل عقلها يختلّ، وتنهار أعصابها أمام الألم الدائم، فيغيب الوعي بالبراءة وتهيم الضحية المسكينة إلى النيران وهي قانعة بأنها على وشك أن تهوي إلى جهنم الأبدية" .

ويختم (هروود) سرده لفظاعات الاضطهاد والتعذيب الوحشي باسم الدين فيقول:
"لعل المرء يتساءل وهو يستعيد الفظاعات الماضية لدى أسلافنا: ما علاقتنا بهذا كلّه؟ والجواب بالطبع هو أنّ الإنسان المعاصر ليس أفضل من المحقق في محاكم التفتيش أو من صيّاد الساحرات أو أيّ طاغوت آخر من طغاة الأيام السالفة ... لقد كانت عصابة حاملي الجثث المسعورين، الذين كانوا يعذِّبون الأبرياء أيام الكوارث الكبرى، تقترف جرائمها المروّعة لمجرّد تحقيق الربح المادي. وفي أيام الرقّ كان المالكون والمراقبون يفرضون أشنع أنواع العقوبات من أجل ترويض العبيد ولإجبارهم على القيام بالحدّ الأقصى من العمل. وفي مراحل التاريخ كلّها كان السجّانون يستخدمون التعذيب لبثّ الذعر في المساجين ولفرض الهيمنة عليهم.
وسيّان ارتُكِبَت الفظائع في زنـزانات القرون الوسطى أو في معسكرات الاعتقال في القرن العشرين فإن المبادئ كانت ذاتها ... والتفرقة الجلية هي أنّ أفظـع أنـواع المجازر الجماعـية كانت دائـماً من صنع أولئك الذين كانوا أكثر (تحضُّراً)".

ولقد لمس السير (جيمس فريزر) مؤلف (الغصن الذهبي) صميم المسألة حين كتب قائلاً:
"يبدو في الحقيقة أنه حتى في أيامنا هذه يظلّ الفلّاح—صاحب المصالح الزراعية—وثنياً ومتوحشاً في أعماقه. وإنّ تمدُّنه مجرّد قشرة رقيقة سرعان ما تزيلها ضربات الحياة القاسية لتكشف عن الجوهر الصلب للوثنية والهمجية تحتها ".

ويتابع (هروود) تعليقه، فيقول:
"ولم يعش السير جيمس حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وربما لو عاش حتى ذلك الحين لاستبدل كلمة (فلّاح) بكلّمة (إنسان) .
أي أنّ الإنسان بشكل إجمالي، قد تورَّط في سفك الدم بوحشية فاقت، إلى حدٍّ بعيد، وحشية الوحوش ذاتها!
وهكذا سفكوا دم المسيح مرّات ومرّات ..
سفكه أرباب الإرهاب (الديني) الزّاعمون الدفاع عن معتقداتهم وأوثانهم وحمايتها من (جريمة) حرية المعتقد، أو التبشير بإيمان جديد أو حتى الاعتقاد به بشكل شخصي وخاصٍّ بالمعتقِد نفسِه.
لم يدرك (المسيحيون) الذين سفكوا دم أتباع المسيح أنهم كانوا يسفكون دماءهم هم أيضاً بحسب تعاليم الكتاب المقدس الذي يقول عن اللـه عزّ وجل:
{وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ} (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 17 : 26) .
ولكن ما يحيِّر هو أنه من المفروض أنّ أتباع المسيح المؤمنين به كانوا يَعلَمون هذا التعليم المسيحي، ويقرؤونه في الكتاب المقدّس، ويعلّمونه للناس فكيف إذن لم ينتبهوا إليه ولم يعملوا به، بل تجاوزوه بإفراط شديد، وذلك في ما يُسمّى باضطهادهم (الصالح) ضد الطوائف المسيحية الأخرى التي كانوا على اختلاف معها في معتقد أو آخر، فراحوا يمارسون إرهاباً (دينياً) شديداً، وأخذوا:
يُعَذِّبون أتباع المسيح ويُمزّقونهم باسم المسيح!
ويقتلون أبناء الرَّب باسم الرَّب!
ويسفكون دماء المؤمنين المـُخلِصين من المسيحيين باسم المسيحية والدين والكنيسة!
وحين يتذكّر المـُطّلع على فتاوى الكنيسة واضطهاداتها، ومظالم محاكم التفتيش وإرهابها للمسيحيين المساكين الذين وقعوا في براثن أحكامها ومخالب قبضاتها، يدرك بسهولة براءة الدين والمسيح والكتاب المقدّس والكنيسة الحقيقية والمسيحيين المؤمنين المخلصين من كلّ هذه الممارسات الهمجية باسم الدين وبحجّة الدفاع عنه وعن مقدّساته أو نشره بين الناس!

رحمكم الله أيها الشهداء المسيحيون الأوائل، يا من كان استشهادكم ذوداً عن إيمانكم العظيم وفي سبيل نشر تعاليم المسيح في الرحمة والمحبة والسلام وتعليم الكتاب المقدّس بأن الله عزّ وجل قد:{صَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ}، فجاء أحفادكم من بعدكم بممارساتٍ وحشية تخالف هذا التعليم، فأوقعوا الاضطهاد والإرهاب والتعذيب بأبنائكم، وقتلوهم، وسفكوا دماءهم باسم المسيح والرب الواحد الذي {صَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ} (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 17 : 26)!

وتشهد الأرض -التي أغرقتْها يدُ الإرهاب بالدماء- في أركانها الأربعة بدءاً من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا ومن أُستراليا إلى أمريكا .. تشهد على أنّ الإنسان قد عانى الكثير من الإرهاب والاضطهاد والتعذيب الوحشي على يد من يُسمّى بالأمم المتحضِّرة المتقدِّمة، كما تشهد أنّ أشدّ وأبشع أنواع الإرهاب والاضطهاد إنّما تلك التي كانت تُوقَع على أجناسٍ من البشر المسالمين باسم الربّ أو الدّين—من أيّ دين كان أو معتقد!

 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة