يشرح المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
"إن التنـزيه من الذنوب إنما هو فعل الله. وإن ملء القلوب بحبه إنما هو فعل ذلك القادر. وإن ترسيخ عظمته وخشيته في قلبٍ يعود إلى إرادته هو ﷻ. وإن قانون الطبيعة الجاري منذ القِدم هو أن كل هذه الأشياء تتأتّى بعد المعرفة الكاملة.
إن أصل الخوف والحب والتقدير هو المعرفة التامّة. فمن أُعطِي المعرفة التّامة فقد أُعطي الخشية والحب الكاملين أيضًا. وكلّ من أُعطي الخشية الكاملة والحب التامّ فقد نُجِّي من الذنب الناشئ عن التجاسر.
نحن لا نعتمد لتحقيق هذا الخلاص على أيّ دم، ولا نحتاج إلى أيّ صليب ولا لأية كفّارة، بل نحن بحاجة إلى تضحية واحدة، ألا وهي التضحية بنفوسنا التي تشعر فطرتنا بالحاجة إليها. وهذه التضحية تُدعى بتعبير آخر "الإسلام". والإسلام يعني تسليم العنق للذبح. أي أن تضعوا أرواحكم على عتبة الله طوعًا وانصياعًا. إنَّ هذا الاسم الجميل هو روح جميع الشرائع السماوية وجذر التعاليم ونواتها. إن تسليم المرء عنقَه للذبح برضى وقناعة حقيقيين يتطلب حبًّا تامًا ومعرفة تامة. وهكذا فإنّ كلمة الإسلام تُشير إلى أنّ التضحية الحقيقية تحتاج إلى معرفة كاملة وحبّ كامل ولا تحتاج إلى شيء آخر. لقد أشار الله تعالى إلى هذا الأمر حين قال: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم}.
.. اعلموا أن الهدف الحقيقي من وراء كافة أحكام الإسلام هو أن يصل الإنسان إلى الحقيقة الكامنة في لفظ "الإسلام".... إن حقيقة الإسلام هي تسليم العنق إلى الله تعالى لتذبحَ مثل الشاة، وتركُ الإنسان جميع إراداته، وفناؤه في رضا الله تعالى، وقبولُ نوعٍ من الموت لنفسه بعد الفناء في الله، والاصطباغُ بصبغة حب الله بصورةٍ كاملة، ثم القيامُ بطاعته ﷻ نتيجة حبه الذاتي وليس لأي سبب آخر، والحصولُ على عينين لا تريان إلا بالله، وأذنينِ لا تسمعان إلا بالله، وقلبٍ خاضع لله وحده، ولسانٍ لا ينطق إلا بإنطاقه. هذا هو المقام الذي تنتهي عليه كل أنواع السلوك؛ حيث تكون القوى الإنسانية قد أنجزت كافة المهام الموكولة إليها. ويطرأ على نفسانية الإنسان موت كامل، عندها تهب رحمة الله ذلك الإنسان حياة جديدة بكلامه الحي وأنواره الساطعة، فيتشرّف بكلام الله العذب. وعندها فإن النور الأدق الذي لا يمكن للعقول أن تكتشفه، ولا تصل العيون كنهه، يقترب إلى قلب الإنسان تلقائيا كما يقول تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. فهكذا يشرِّف الله تعالى الإنسان الفاني بقربه، فيأتي وقت يزول فيه عماه وتستنير عيناه؛ فيرى ربه بهاتين العينين الحديدتين، ويسمع صوته، ويجد نفسه ملفوفًا برداء نوره ﷻ. عندها تكتمل الغاية من الدين، ويخلع الإنسان عن جسمه لباس الحياة السفلية بعد رؤيته اللهَ ﷻ ويلبس لباس النور. فلا ينتظر رؤية الله تعالى والجنة كوعدٍ يتعلق بالآخرة فقط، بل يحظى برؤيته ﷻ ومكالمته ونَعماء الجنة في هذه الدنيا. كما يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. أي إن الذين يؤمنون بأن ربنا جامعٌ لجميع الصفات الكاملة ولا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ثم يثبتون ويصمدون على ذلك ولا يتـزعزع إيمانهم مهما هزّتهم الزلازل ونزلت عليهم البلايا أو واجههم الموت؛ تتنـزل عليهم الملائكة ويكلِّمهم الله قائلا: لا تخافوا الأعداء الشرسين ولا تحزنوا على مصائب سبقت، فأنا معكم وسأهب لكم في هذه الدنيا الجنةَ التي وُعدتم بها، فافرحوا بها.
فليكن معلوما أن هذه الأمور ليست بدون شهادة عليها، وليست بوعود لم تتحقق، بل إن ألوفا من أصحاب القلوب النيِّرة من المسلمين قد نالوا هذه الجنة الروحانية. الحق أن الإسلام دينٌ قد جعل الله تعالى أتباعه المخلصين ورثةً للصادقين السابقين كلِّهم، وقد أعطى هذه الأمة المرحومة كافة نِعمهم المتفرقة، وقد استجاب دعاءً قد علّمه بنفسه في القرآن الكريم وهو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. أي اهدنا يا رب إلى صراط الذين نالوا منك جميع أنواع البركات ونالوا شرف مكالمتك ومخاطبتك، وحظُوا منك باستجابة أدعيتهم، وحالفتهم نصرتك وعونك وهدايتك دائما. وجنِّبنا سبيل الذين حلّ بهم غضبك، والذين تركوا سبلك واختاروا سبلا غيرها. هذا هو الدعاء الذي نقرأه في الصلوات الخمس كل يوم." (محاضرة لاهور)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.