يعرض أعداء الإسلام العديد من الاختلافات في المصاحف المختلفة والقراءات القرآنية المختلفة، مثل اختلاف قراءة حفص عن ورش، من أجل الطعن في القرآن الكريم والطعن في نبوءة حفظه، وفق تصريح الآيات التالية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (10)} (الحجر 10) والآية: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (22) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (23)} (البروج 22-23). محاولين بذلك إبطال حفظ القرآن الكريم.
ففي تفسير أوجه الاختلاف بين المصاحف نقول ما يلي:
1: إن أساس هذه الاختلافات هو الوحي الربانيّ نفسه، إذ كان القرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كل سنة من جديد؛ ويراجعه جبريل معه صلى الله عليه وسلم، فبتعدد نزول الآيات كانت نفس الآية تختلف في قراءتها أحيانا من نزلة إلى أخرى. فنتيجة لذلك كانت هنالك قراءات مختلفة للقرآن الكريم، وهذه القراءات متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يُقرئها لصحابته بنفسه بهذه الاختلافات الطفيفة، وبتواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن التشكيك فيها، كما لا يمكن القول إنها خارجة عن إطار الوحي القرآني.
ولكن هذا الاختلاف محدود جدا، وفي مواضع قليلة للغاية نسبيا، والهدف من الاختلاف التوجيه إلى معاني خاصة متنوعة وأوسع أرادها الله تعالى في الآية، مثلا: قاتَل و قُتل ، فالمعنى فيها لا يختلف جوهريا فيبقى في عداد القتال والجهاد، ولكن القراءة الثانية تضفي معنى أوسع وهو ليس فقط القتال بل الاستشهاد أيضا. ولكن هذه المعاني لا تغير المعنى الشامل للآية ولا للسياق، وهذا هو الأهم. فلا يمكن اعتبارها اختلافات في الآيات، لأن الاختلاف إنما يعني أن الآية ستصبح تتحدث عن موضوع مختلف أو أن التغيير قد غيّر المعنى فيها جذريا، وهذا غير متحقق.
2: ومن الأهداف الأخرى لهذه القراءات كان التسهيل على القبائل المختلفة نظرا لاختلافها في لغاتها العربية ولهجاتها من حيث معاني المفردات والنطق وكذا لغاتها النحوية، بما لا تأثير فيه على المعنى بشكل جوهري. ومن هنا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم : {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهُنَّ شَافٍ كَافٍ } (سنن النسائي, كتاب الافتتاح) وحديث آخر يقول فيه : بأيها قرأت أصبت.
3: فهذه الاختلافات منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبتعليمه وإجازته وبأمر من الله تعالى له بالسماح بهذه الاختلافات تسهيلا على القبائل العربية المختلفة في لغاتها العربية، ومن هنا فهي ليست تغييرات متأخرة طرأت على القرآن الكريم مع الزمن وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي لا تخرج عن إطار القرآن الكريم، ولا عن إطار حفظ القرآن الكريم.
ويشهد على كل هذا الرواية التالية:
من كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي (ص: 37- 36)
"روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقانَ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنِيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلَّم، فلما سلَّم لبَّبته بردائه فقلت. مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؛ قال: أقرأنيها
ورووا أن عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تَنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفَد لكثرة الرد. وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهَى عن شيء يامر به الآخر كان ذلك الاختلافُ. ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائضُ ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتُنا نتنازعُ فيه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن؛ ولو أعلم أحداً أعلم بما أنزلَ الله على رسوله مني لطلبتُه حتى أزدادَ علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورةَ، وقد كنت علمتُ أنه يعرضُ عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عامُ قبِضَ فعُرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني مُحسن. فمن قرأ على قراءتي فلا يدعتها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعئه رغبة عنه، فإن من جحد بآية جحد به كلهِ."
ومن أمثلته بالإضافة لسورة الفرقان التي جاءت على حروف مختلفة الآية التالية : {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (152) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (153) } (النساء 152-153) فلها قراءة (نؤتيهم أجورهم)
وقد نزلت بالصورتين على اختلافها كما جاء في كتاب البحر المحيط في التفسير (4/ 120)
أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ صَرَّحَ تَعَالَى بِوَعْدِ هَؤُلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ لِيَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَمُقَابِلُهُ وَأَعْتَدْنَا. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: قِرَاءَةُ النُّونِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْهَمُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَشَاكِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا، لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا مُتَوَاتِرَةٌ، هَكَذَا نَزَلَتْ، وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ.
4: كل هذه الأمور والاختلافات لا تغيّر في مفهوم وجوهر النص القرآني؛ على النقيض مما يدّعيه المعارضون، فالذي يعرف العربية يعرف أنه لا فرق فيها.
5: فبعض ما يظنه المعارضون اختلافا في النصّ والمعنى يعود إلى أساليب عربية بليغة لا يفهمها المعارضون مثل أسلوب الالتفات، وهو الانتقال في الحديث من ضمير إلى آخر، مع بقاء المقصود من الضمير هو هو ذاته. مثلا الانتقال من الغائب إلى المخاطَب أو من الغائب إلى المتكلم كما في الآية السابقة (يؤتيهم أجورهم) لأنها تتحدث عن الله، ولكن في القراءة الثانية (نؤتيهم أجورهم) فهذا هو الالتفات، فانتقل الله تعالى من الحديث عن نفسه بصورة الغائب إلى ضمير المتكلم، ولا فرق في المعنى.
6: المهم في حفظ القرآن أنه حُفظ في الصدور ولا يوجد أي كتاب في العالم حفظ كله في صدور الملايين عبر التاريخ كما القرآن الكريم، وهذا يؤكد حفظه.
7: كبار المؤرخين والمستشرقين غير المسلمين يشهدون بأن النص القرآني الذي بين يدينا وصلنا تماما كما كان عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت هناك اختلافات في بعض الحروف والحركات التي لا تغير من فهمه شيئا. ولكن عناصر النص الأساسية لم تتغير ولم يتغير معها المعنى. من بين هؤلاء المستشرقين وليام موير ونولديكه.
8: حتى القراءات المختلفة التي يعرضها المعارضون رغم الاختلاف الموجود فيها فهي دليل على أن النص الأصلي للآيات محفوظ دون تغيير في المعنى، وهذا ما لم يحدث مع أي كتاب سماوي، فالتوارة أعيد كتابتها بعد انقراضها، والإنجيل الذي بين أيدينا كُتب بعد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
9:خصائص حفظ القرآن بحفظه في صدور المؤمنين منذ زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعبر التاريخ ، كذلك حفظ النص الأصلي كتابة كما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، غير موجودة في أي كتاب سماوي.
10: انتشار قراءة حفص في معظم العالم الإسلامي دليل على أنها القراءة الأسلم والأصح مدعومة بالسند والتواتر الصحيح، وهذا بحد ذاته دليل على حفظ القرآن في قراءته الأسلم، وإن كانت القراءات الأخرى لا تختلف جوهريا عنها.
تفسير بعض ما عُرض من اختلاف :
1: حفص:{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (140) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب} (البقرة 140-141)
ورش: أم يقولون.
وهذا هو أسلوب الالتفات في الانتقال من ضمير المخاطَب إلى ضمير الغائب، والقصد من الضميرين هو واحد (اليهود والنصارى في هذا السياق) فلا فرق في المعنى بين القراءتين .
2: حفص: { نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (59) } (البقرة 59) ورش: يُغفر لكم . بصيغة المبني للمجهول، ولا فرق في المعنى بين القراءتين لأنه معروف مَن هو الذي يغفر وهو الله.
3: حفص{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ} (البقرة 185) ورش: طعام مساكين. هذا اختلاف بسيط جدا قد يولد اختلافا فقهيا، ولكن هذا يحسمه قوة قراءة حفص بانها الأقوى التي يجب أن تتبع. عدا عن ذلك فالاختلافات الفقهية واردة في الآيات التي لا اختلاف على قراءتها، فهذا ليس بالشيء الذي يقدح في عصمة القرآن الكريم.
4: حفص :{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ } (آل عمران 82) وردت في قراءة ورش : آتيناكم. لا اختلاف في المعنى فالقصد هو الله، تارة يتحدث بصيغة المفرد وتارة الجمع.
5: حفص :{كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} (آل عمران 147) وردت في قراءة ورش : قُتل معه. لا اختلاف في الجوهر فالحديث كله عن القتال والجهاد والاستعداد للشهادة.
6: حفص {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (49)} (القصص 49) وردت في ورش: ساحران تظاهرا.
والقصد سحر من موسى عليه السلام وسحر من النبي صلى الله عليه وسلم. بينما القراءة الثانية تتحدث عن النبيين وتتهمهما أنهما ساحران. فالمعنى لا يتغير في جوهره فالاتهام هو هو، أي بالسحر .
7:حفص: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (153)} (النساء 153)وردت في قراءة ورش: نؤتيهم أجورهم.
لا اختلاف في المعنى ففي القراءة الثانية أسلوب الالتفات من الغائب إلى المتكلم والمعنى في القراءتين واحد وهو الله.
8: حفص: { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) } (الأنبياء 5) وردت في قراءة ورش: قُل ربي.
لا فرق جوهري معنوي بين القراءتين فالأصل هو القول، إما بالأمر للنبي أو للمسلم أو بصيغة الماضي لعرض ردّ النبي .
9: حفص: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيه} (البقرة 133) ورش: وأوصى بها. لا فرق جوهري معنوي بين أوصى ووصى.
10: حفص { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } (المائدة 55) ورش: من يرتدد.
لا اختلاف بين الكلمات فهي نفس الكلمة مع اختلاف اللهجات الصرفية بين القبائل. فالأولى بالإدغام عند الجزم على لغة تميم، والثانية بفكّ الإدغام عند الجزم وهي لغة الحجازيين؛ وكلاهما صحيح معروف في المراجع اللغوية والنحوية التي تجوز الحالتين دائما اتباعا لهاتين اللغتين.
فكما نرى لا اختلاف معنوي في كل هذا بل النصّ القرآني بمعناه محفوظ في لوح محفوظ.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.