
البيعة أساس الدين، وأصل الشريعة، وأمل المرسلين، وغاية الكتب، وهدف كل رسالة، فما أرسل الله رسولا إلا ليبايعه الناس، وما أنزل كتابا إلا أن يكون هذا الكتاب محتويا على بنود تلك البيعة، وما حياة الرسل أجمعين إلا نموذجا يَحتذي به المبايعون إن أرادوا أن تكون بيعتهم حقيقية قلبا وقالبا، لفظا ومعنى، قولا وعملا، وهذا هو المعنى الحقيقي لقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (الأحزاب 22) فمن صدَّق الرسول وآمن بنبوته وصدق رسالته وأن مصدرها كلام الله ووحيه، فلابد له أن يدرك مثالية أقواله وأفعاله فيتمثلها، ولا يحيد عنها، ويكون اقتداؤه له في الحقيقة هو منتهى الطاعة لله، فإنه وإن أطاع الرسول، إلا أنه في الحقيقة يطيع الله الذي أرسله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (النساء 81) لأن جميع أقواله وأفعاله منه وقال ـ تعالى ـ أيضا مخاطبا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح 11) فالنُّكث بالعهد متوقَّع، فليس كل من عاهد أوفى، فهناك من إذا عاهد غدر.
والبيعة أن تبيع نفسك لله مقابل بعض ترحماته وتفضلاته، وليس جميعها، لأن نعم الله لا تُعدّ، وآلاءه لا تُحصى، وقال تعالى في كتابه العزيز {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة 111) فقد باعوها لله مقابل جنةِ طاعته ورضاه، فللمؤمن جنتان، إحداهما في الدنيا، والأخرى في الآخرة، فأما التي في الدنيا فأن تشمله السكينة، وتحفه الرحمة، وتنزل عليه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، وأما التي في الآخرة فيتجلى عليه رب العالمين تجليه الأعظم، ويربيه التربية المثلى، ويرعاه الرعاية القصوى، ويتغمده برحمانيته فيرى ما لم يكن يرى، ينعم ما لم يكن ينعم، ويحيى وكأنه لم يكن قبل من الأحياء، ثم تتجلى عليه رحيميته ثمرات أعماله الصالحة فإذا بها: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } (محمد 16)؛ ثم مالكيته التي يصل بها إلى عين الحقيقة الإلهية، ومنتهى صور المالكية، حيث يوصل الله إليه نعمه بيده.
ولأن الإنسان كلَّه ملكٌ لله، فعليه أن يبيع نفسه له، ويهبَها إياه سبحانه، فهي منه وإليه، ومن فضل الله أن جعل لها ثمنا، وهو الجنة، رغم أنها في الأصل ملك له، وهبةٌ منه، فسبحان الذي يملك السلعة، ثم يدع الإنسان يقبض لها ثمناً!
فقد بايع كل نبي ربه على الطاعة والاتباع المطلق، واتخذ كتابه الذي أوحاه الله إليه نبراسا له ومنهجا، وطبق شروط البيعة وفق الكتاب الموحى إليه، واتبعه على ذلك من اتبعه من المؤمنين، ولكن المصابيح لا تظل مضيئة دوما، فإذا قل زيتها خفتت، وإذا نفد انطفأت، ولكن رحمة الله تأبى أن ينقطع نوره من العالم، فسرعان ما تتدارك رحمتُه التي وسعت كل شيء عباده، الصالحَ منهم والطالح، فيرسل المبعوثين المأمورين، ويحدث المحدَّثين، ويلهم أولياءه الصالحين، كل ذلك لا لشيء إلا ليبايعهم الناس، وينهجوا نهجهم، ويقتفوا أثرهم، ويكونوا كأنهم هم، رحمةً منه وفضلاً، ولأن سيدنا إبراهيم عليه السلام دعا دعوته الشهيرة {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (البقرة 130) فالتزكية لا تكون إلا على يد مأمور من الله ومبعوث منه، ونذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن كيفية النجاة من فتن آخر الزمان، إذ قال له {فَالْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ } (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن) ، فها هي جماعة المسلمين ـ الجماعة الإسلامية الأحمديةـ وها هو إمامهم المهديّ والمسيح الموعود عليه السلام، وخليفة الوقت رضي الله عنه الذي يأخذ من الناس البيعة باسمه المبارك، فإن كنتم ترجون طاعة الله، وترغبون ـ حقيقةً ـ أن تتعلموا آياته، وتعرفوا المعنى الحقيقيَّ للكتاب والحكمة، وتتوق أرواحكم إلى التزكِّي الذي يصلكم إلى بارئكم، فبايعوه ولو بعتم العالم كله، فأنتم الرابحون، فقد فزتم بتجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتبلغ بكم معارج الترقيات إلى الرب الكريم.
ومن أجل ذلك داوم الله الذي كتب على نفسه الرحمة على إمداد أهل الأرض بماء السماء، فكانت السماء دوما ذات رجع، وكانت الأرض ذات صدع، تصدع لأمر ربها وتطيعه وتأتمر بأمره، حتى لا تنقطع الصلة بين السماء والأرض، وحتى يتسنى للناس أن يكونوا عباداً لله صالحين.
وظل الأمر على ذلك أبد الدهر، فكلما خبا نور أدركه نور، لذلك كان الله نورَ السماوات والأرض، فمنه كل النبيين، وسائرُ الكتب، وكافة التشريعات، وفي زمننا هذا كُوِّرت الشمس، وانكدرت النجوم، فلم تعد شمس محمد ساطعة كما كانت، ولم تعد سُنته يتخذها الناس منهج حياة، ولم تعد أقواله تُفهم على وجهها الصحيح، إنما تخللتها الخرافات، وغلبت عليها الأساطير، ويحاول الدجالُ أن يحجب ضوءها الباهرَ بألاعيبه وحيله ومكرِه ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فأرسل الله مسيحه الموعود حسب المواعيد الموعودة، والمواقيت الموقوتة ، وقال رسوله للناس فإن رأيتموه فبايعوه، تلك البيعة التي أخبر عنها في كتابه الكريم قائلا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة 111) فقد باع المؤمنون أنفسهم لله، وليس لهم جزاءٌ إلا الجنة، ويذكِّرهم الله بتلك البيعة من حين إلى حين، كلما يبعث مبعوثا، أو يُرسل مجددا، وذَكرها وشدَّد عليها عند ذكر المسيح الموعود والمهدي المعهود عليه السلام عندما قال (فبايعوه) ولأنه تعالى يعلم أن البيعة في هذا الزمن سوف تكون شاقة كل المشقة، لِما يتحمل أصحابها في سبيلها من مصاعب، فقال {فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ} (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن) أي بايعوه ولا تبالوا بالأخطار، بايعوه واقتحموا العقبة، بايعوه لتنعموا بالطمأنينة والسلام مع النفس ومع سائر العالمين، بايعوه لتفوزوا بالدارين، وتكونوا من الذين قال الله فيهم {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } (الرحمن 47) جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة، لن يحياهما على حقيقتهما إلا من بايع بحق
لا تقدر الكلمات مهما كانت بليغة منتقاةً أن تعبر عن مدى السلام النفسي، والاطمئنانِ الجمّ، والسعادةِ الروحية، والرضا والقناعة، وحبِّ الناس جميعا على عِلاتهم، على ما هم عليه، الذي يحظى به المبايعون بعد البيعة، لأنهم قد علموا أن الله يرحم الناس جميعا، فلِمِ لا يرحمونهم هم؟! ولأنهم علموا أن الله يحبهم جميعا، ولا يكرههم، فلماذا يكرهونهم هم؟! حتى الذين ليسوا منهم يحبونهم ويرجون لهم الخير ولا يذمونهم ولا ينتقصون من قدرهم لأنهم لم يروا ما رأوا، ولم يتذوقوا حلاوة ما تذوقوا، فمن أجل ذلك يشفقون عليهم ويصافونهم ويوادعونهم أسوةً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يوافق على العرض الذي قدمه له ملك الجبال عندما قال له {يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا} (صحيح البخاري, كتاب بدء الخلق).
تلك البيعة إعلان صريح للناس جميعاً أن المبايع باع الدنيا واشترى الآخرة، باع الناس واشترى رب الناس، ولن يعرف أهمية البيعة ويقطفَ ثمارها إلا المبايعون، فمن لم يذق العسل في حياته كيف أن يصف حلاوته لغيره؟!
وأذكر في ذلك الشأن قولا للخليفة الأول مولانا نور الدين رضي الله عنه، عندما اعترض عليه أحدهم قائلا: ما التي أضافته إليك بيعتك للمرزا وقد كنت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: أما وإن كنت أرى رسول الله في المنام قبل البيعة، وقد أصبحت بعد البيعة أراه في اليقظة، فإن كان هذا هو شأن الصالحين من أمثال خليفتنا الأول، الذي كان له باع طويل في العلوم القرآنية والحديثية، وصلةٌ بالله قلما يشاركه فيها أحد من أهل زمانه، فما بالك بنا نحن العوام والجاهلين والآثمين، فما أحوجنا لتلك البيعة لنتلو آيات الرحمن خلف من أرسله، فيزكينا، ويطهرنا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، كما وعد الله بذلك وأنفذ وعده {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (3) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الجمعة 3-4) ونحن الآخرون الموعودون، وقد بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بعثته الثانية، في صورة المسيح الموعود، والمهدي المعهود، الذي هو من بني فاطمة أُماً، ومن بني فارس أباً، بعدما ارتفع الإيمان عند الثريا، فأتى به، فيا من كنتم تنتظرون عيسى النازل من السماء، فهلموا إليه فقد نزل، ويا من تؤملون أنفسكم بانتظار الإمام المهديّ، ليأتيكم بنصر بعد هزائم، وعز بعد مذلات، ورفعة بعد تهاوي، فقد أتى، فبايعوه ولو حبواً على الثلج، ليتسنى لآمالكم أن تتحقق، وأحلامكم أن تكون واقعاً حياً، وأعمالكم أن يُكتب لها القبول عند رب العالمين، وساعتها فسوف ترون الله وقد رضي عنكم وأرضاكم، ومن كل فتن الدجال قد عصمكم ونجاكم
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.