جاء في التفسير الكبير لحضرة الخليفة الثاني في تفسير سورة الفرقان ما تعريبه: والواقع أن معارضة الأنبياء هي من أهم الوسائل الخفية التي يوسع الله تعالى بها نطاق رسالته. فعندما تهبّ عاصفة المعارضة تقع بين الناس هزة، فيقول أصحاب الفطرة الطاهرة في أنفسهم: ماذا يقول صاحب هذه الدعوة، ولماذا يلقى المعارضة؟ وعندما يتحرون الأمر يشرح الله تعالى صدروهم لقبول الحق، فيؤمنون به. فثبت أن المعارضة وسيلة قوية لإيصال صوت الأنبياء إلى آذان القوم. والمتنبئون الكذابون يكونون محرومين تمامًا من هذه الوسيلة. لا شك أنهم أيضًا يدّعون دعاوي غريبة، ولكن الناس لا يكترثون لهم، بل يعتبرون دعواهم ضربًا من الجنون فحسب. إن هؤلاء المفترين يتمنون أحيانًا أن يعارضهم الناس حتى يتحدث عنهم كل صغير وكبير ويذيع صيتهم بين القوم، ولكن لا أحد يلتفت إليهم، فيعيشون في زاوية الخمول ويموتون في زاوية الخمول. ولكن الله تعالى إذا بعث أحدًا من عنده انبرى لمعارضته كل القوم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وقويهم وضعيفهم، وكل واحد من القوم يطلق إليه سهامه ظنًا منه أنه يعمل عملاً يثاب عليه، ولكن هذه المعارضة نفسها تهز ذوي الفطرة السعيدة في الأخير هزًّا، وتوصلهم إلى باب الله تعالى. ألم تر أن المعارضة الشديدة من قِبل أهل مكة هي التي نشرت الإسلام في الحبشة. وهي التي أوصلت رسالة الإسلام إلى المدينة المنورة. وهي التي دفعت أولاد كبار أعداء الإسلام من مكة وإخوانهم وأقاربهم إلى أحضان الإسلام، فأخذوا يفدون الرسول * بأرواحهم. وبرغم أن المكيين قد اتخذوهم عرضة لصنوف التعذيب، حتى جرّوهم على أرض ذات أحجار، وألقوهم في الرمال المحرقة في الشمس، وكبلّوا أيدي المسلمين وأرجلهم بالأصفاد، وأخرجوهم من ديارهم وأوطانهم، وقتلوا المسلمات طعنًا في فروجهن، وقتلوا بعض المسلمين بربط إحدى رجليه ببعير ورجله الأخرى ببعير آخر، ثم ساقوهما في جهتين متعاكستين، ومع ذلك ظل هؤلاء القوم هائمين حول الرسول * كالفراش ويضحّون بأرواحهم من أجله *.
فرغم أن الشيطان عدو للحق منذ الأزل، ويسعى جاهدًا للقضاء عليه، ولكنه يصبح وسيلة لانتشار الحق في واقع الأمر، ويتسبب في وصول التائهين في الضلال إلى العتبة الإلهية. ولذلك عزا الله تعالى هذا التدبير إلى نفسه فقال *جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا*(الأنعام:113)، موضحًا أنه قد خلَق لَمّة الشيطان عن قصد ولحكمة بالغة. ولما كان من الوارد أن يعترض أحد ويقول: لماذا يبعث الله عباده المحبوبين لهداية الناس، ثم يسلط عليهم أعداءهم كالكلاب المسعورة؟ فأجاب الله عن ذلك وقال *وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا*.. أي أن ربك كافٍ لهداية الناس ولنصرة أنبيائه نصرًا معجزًا. بمعنى أنه مما لا شك فيه أن المعارضة مدعاة للاعتراض في الظاهر، ولكنها هي التي تصبح في نهاية المطاف دليلاً على أن الله تعالى هادٍ ونصير. فإذا اشتدت المعارضة ازدهرت الجماعة الإلهية أيضًا، واذا ازدادت المعارضة ازداد معها التأييد الإلهي والنصرة الربانية أيضًا. ولذلك كلما كان بعض أتباع سيدنا المسيح الموعود * يشتكي إليه باشتداد المعارضة في منطقته كان يقول له: هذا دليل على رقي جماعتكم، لأنه حيثما تكون المعارضة تزدهر جماعتنا أيضًا، لأن كثيرًا من الناس الذين لا يعرفون جماعتنا يطلعون عليها من خلال ما يقول الخصوم، فيرغبون في قراءة كتبنا شيئًا فشيئًا، فيقبلون الحق.
حضر شخص ذات مرة إلى سيدنا المسيح الموعود * وبايع على يده. فسأله حضرته: من بلغك الدعوة؟ فقال بدون توقف: الشيخ ثناء الأمرتسري. فقال * في حيرة: كيف؟ قال: كنت أقرأ الجريدة الأردية للشيخ الأمرتسري، وكنت ألاحظ دائمًا أنه شديد الطعن في جماعتكم. فقلت في نفسي يومًا: لم لا أرى بنفسي ما ورد في كتب هذه الجماعة؟ فبدأتُ مطالعة كتبكم، فانشرح صدري ورغبت في بيعتكم.
إذًا، فالفائدة الأولى في المعارضة أنها تؤدي إلى ازدهار الجماعة الإلهية وتتسبب في هداية الكثير من الناس. والفائدة الثانية أن الله تعالى يُظهر بسبب عداء الخصوم آيات معجزة لتأييد جماعته ونصرتها. عندما تبلغ المعارضة ذروتها تجذب أدعيةُ المؤمنين وابتهالاتهم نصرة الله من السماء، فيُهلك الله تعالى بقهره أعداءهم ذوي المنعة والقوة. فمثلاً حين قام فرعون وجنوده بمطاردة بني إسرائيل ظن قبل غرقه بدقائق أنه قد نجح في قصده، حتى ظن بنو إسرائيل أيضًا أنهم هالكون، فصرخوا قائلين *إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*(الشعراء:62)، ولكن موسى * الذي كان يتوكل على ربه توكلاً كاملا أجابهم وقال *كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ*(الشعراء:63).. أي سيهديني إلى مخرج من هذه الورطة الهائلة. فما هي إلا دقائق حتى وصل موسى مع قومه إلى الشاطئ الآخر من البحر، بينما أخذ فرعون وجنوده يغرقون في أمواجه.
مجمل القول إن المعارضة وسيلة كبيرة لنشر الهدى، وتؤكد كون الله تعالى هاديًا ونصيرا.
وأقتبس لفائدتك فقرة أخرى من التفسير الكبير:
ولا مجال لثواب أو عقاب الشيطان المحرض على الشر. ذلك أنه مما لا شك فيه أن الذي يقتل شخصًا آخر يعاقَب بالإعدام، ولكن البرق الذي يحرق عشرات الناس لا يستحق أي عقاب. وبالمثل إن حمم البراكين التي تثور عند الزلزال وتدمر مناطق واسعة، ومطرَ البرَدِ الذي يُهلك الزروع، والرياحَ التي تحوّل المدن خرابًا، كلها أشياء مؤذية مدمرة، ولكنها لا تعاقَب في أي شرع. فلا شك أن الشيطان وإبليس مصيرهما جهنم، وأن الملائكة مصيرها الجنة، ولكن لن تجد الملائكة في الجنة أي متعة، كما لن يشعر الشيطان في جهنم بأي أذى. ذلك أن الشيطان كائن ناري، ومتى تتألم جذوة من النار إذا ما أُلقيت في الأتون؟! إن النار إنما هي مقام إبليس. فليس المراد من دخول الشيطان النارَ أنه سيعاقَب بذلك، بل المعنى أنه وصل إلى المكان الذي كان ينتمي إليه. إن الملائكة إذا دخلت الجنة فلن تدخلها كجزاء لها، وبالمثل لن يدخل الشيطان النار كعقاب لـه. نعم، إن أظلال الشيطان يعاقَبون بحسب جريمتهم لأنهم يقومون بأعمال لم يُخلقوا من أجلها. علمًا أن العقاب إنما هو على أعمال تكون خلافًا للقانون الطبيعي، ولما كان الإنسان قد خُلق بطبعه للأعمال الصالحة لقوله تعالى *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ* (الذاريات: 57) فمَن ترَك منهم العبودية لله تعالى ونسي عبادة الله استوجب العقاب. ولكن الحافز على الشر، أي الشيطان، لم يُخلق إلا لاختبار الناس، فلن يعاقَب إلا إذا قصّر في تحريضه إياهم على الشر.
نعم، يمكن أن يقال: فلماذا يُذكر الشيطان بالسوء إذًا؟ والجواب أن كون الشيء سيئًا أمر، وكونه مستوجبًا للعقاب فهو أمر مختلف تمامًا. فمثلاً، إننا لا نرمي الغائط والبراز بعيدًا عنا عقابًا لـه، بل لأن بقاءه داخل البيت ضار بصحتنا. وهكذا حال الشيطان الذي هو الحافز على الشر. إنه يمثّل المرض والإثم، فلا بد أن يوصف بالسوء، ومع ذلك لا يستوجب العقاب.
ترددات قناة mta3 العربية:
Hotbird 13B: 7° WEST 11200MHz 27500 V 5/6
Eutelsat (Nile Sat): 7° WEST-A 11392MHz 27500 V 7/8
Galaxy 19: 97° WEST 12184MHz 22500 H 2/3
Palapa D: 113° EAST 3880MHz 29900 H 7/8