loader
 

السؤال: هل من الممكن أن تفسروا لي قصة بقرة بني اسرائيل عندما أمرهم بذبح بقرة بدلا من التفسير الساذج المتداول حاليا و شكرا

التفسير المتداول ربط بين آيات ذبح البقرة وبين الآية التي تليها والمتعلقة بقتل نفس والمتضمنة جملة (كذلك يحيي الله الموتى)، فظنوا أن هذه البقرة المذبوحة سيُضرب بها الميت فيعود إلى الحياة. وهذا الربط باطل، لأنهما قصتان مختلفتان؛ قصة ذبح البقرة، وقصة قتل النفس، حيث تبدأ كل قصة بكلمة (وإذ) كما هو واضح في آيات سورة البقرة التي تتحدث عن بني إسرائيل في بضع وثمانين آية..
ولا داعي للتهكم على التفسير المتداول، بل الأجدر أن نحمد الله تعالى على هدايته وفضله وتعليمه، وأن ندعو بالرحمة على السابقين حتى لو اجتهدوا وأخطأوا، فللمخطئ أجر على اجتهاده إِنْ بذل جهده وكانت نيته سليمة. المهم هو عدم الاصرار على الخطأ بعد أن عُلم الصواب.
وقد جاء في التفسير الكبير لحضرة الخيفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام ما يلي:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ
شرح الكلمات:
هُزُواً: هزأ به ومنه: سخر(الأقرب). أتتخذنا هزوا: أتجعلنا هدفا للاستهزاء؟
الجاهلين: الجهل فعل الشيء بخلاف ما حقُّه أن يُفعل(المفردات).
التفسير:
كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر. وكان المصريون يعظمون البقرة كثيراً، لذلك استولت عظمتها على قلوب بني إسرائيل أيضاً. وكذلك يتبين مما سبق في هذه السورة(الآية 52)، ومما جاء في التوراة (خروج32) أن بني إسرائيل عندما اتخذوا الصنم إلهاً كان على صورة عجل، مما يدل على أن تعظيم البقرة في قلوبهم وصل إلى حد تأليهها. ولما كان الهدف الأساسي للأنبياء القضاء على الشرك وإظهار جلال الإله الواحد الأحد، الخالق المالك لكل مخلوق..فكان ضرورياً أن تتضمن شريعة موسى من التعاليم ما يستأصل من قلوب بني إسرائيل تعظيم البقرة، ولولا ذلك لمالوا بعد مدة إلى عبادتها مرة أخرى. ولذلك أمرت شريعة موسى في عدة مناسبات بذبح البقر. ومن الواضح أن الذين يذبحون حيواناً مرة بعد أخرى لا يمكن أن يخلعوا عليه صفات الألوهية.
تشير هذه الآية أن موسى عليه السلام أمر قومه بذبح بقرة، فأرادوا مماطلته، ولكنهم في النهاية اضطروا كارهين إلى الامتثال بأمره. وذكر الله تعالى هنا نكراناً آخر للجميل ارتكبه بنو إسرائيل. فبعد عبادة العجل وتلقّي عقوبات شديدة، وبعد توبة وخجل..لم يكن متوقعا من هذا الجيل نفسه أن يسقط في وحلة الشرك مرة أخرى. ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة، بل مالوا إلى الشرك. ويبدو أنه، لسوء حظهم، وُلد عندهم عجل جميل بشكل غير عادي..كان يشبه العجل الذي يعبده المصريون، فهفت قلوبهم إلى تعظيمه. فأمر الله موسى أن يقيم سنّة ذبح البقر لكي يقتلع من قلوبهم هذه الميول الشركية. ولما كاد المريب يقول خذوني، فقد أحسّوا أن هذا الأمر يخص عجلهم الجميل المحبوب، وتداولوا فيما بينهم حول هذا الأمر، وبدلاً من أن يبادروا إلى ذبح أي بقرة حتى يتم تنفيذ الأمر الإلهي بدون هتك سترهم، انهالوا على موسى بوابل من الأسئلة حول صفات تلك البقرة وعلاماتها، ظناً منهم أن الله تعالى يريد بقرة خاصة. وكانت نتيجة هذا النقاش أن الله تعالى أعطاهم علامات دقيقة تنطبق على عجلهم الجميل الذي بدأ تعظيمه يتولد في قلوبهم. فاضطروا آخر الأمر إلى ذبحه، ووقفوا موقف الخجل والإحراج.
ويدلنا تاريخ المصريين القديم أنهم عبدوا حيوانات كثيرة، ولكن أهمها العجل الذى كانوا يختارونه بمواصفات خاصة، ويقيمون له التماثيل، وشيدوا له المعابد، ووضعوا صوره على جدرانها ومن هذه العجول (عجل أبيس). اتخذوا يوم ميلاده عطلة وعيداً ويوم وفاته مأتما وحزنا. وكانوا يحنّطونه ويدفنونه في مقابر خاصة، ويبحثون بعده عن عجل مثله. وكانوا يعتبرونه مظهرا لإله الشمس. وكانوا لا يجيزون أكل هذه الحيوانات. وقد استمرت هذه العادة فيهم إلى رعمسيس الثاني أيضاً.
(New Standard Dictionary & Encyclopedea of Religions& Ethics, The Nile& Egyptian Civilisation by Moret A.)وكان بنو إسرائيل متأثرين بهذه العقائد المصرية، وعندما رأوا هذا العجل الجميل الذي تميز بمواصفات خاصة مالوا إلى الشرك.
لقد اختار القرآن كلمة (بقرة)، ولكنها تستعمل للمؤنث والمذكر. ولا تذكر التوراة هذا الحادث بمثل تفصيل القرآن له، ولكن كما سبق أن ذكرت أن ذكر حادث تاريخي في التوراة أو عدمه لا يعني شيئاً إزاء كتاب سماوي محفوظ. ومع ذلك فقد جاء في التوراة ذكر تضحية عجل بعلامات كالتي ذكرت في القرآن حيث قيل إن الله تعالى قال لموسى: (كلم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يَعْلُ عليها نِيْرٌ. فتعطوها لألعازار الكاهن فتُخرج إلى خارج المحلة وتذبح قدّامه. ويأخذ ألعازار الكاهن من دمها بأصبعه، وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات. وتحرق البقرة أمام عينيه..يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها، ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفا وقرمزا ويطرحهن في وسط حريق البقرة ثم يغسل الكاهن ثيابه ويرحض جسده بماء، وبعد ذلك يدخل المحلة، ويكون الكاهن نجساً إلى المساء. والذي أحرقها يغسل ثيابه بماء، ويرحض جسده بماء، ويكون نجساً إلى المساء. ويجمع رجل طاهر رماد البقرة ويضعه خارج المحلة في مكان طاهر. فتكون لجماعة بني إسرائيل في حفظِ ماء نجاسة. إنها ذبيحة خطية) (عدد2:19إلى 9).
لا تذكر هذه العبارة ما دار بين موسى وبينهم من أسئلة وأجوبة كما ذكر القرآن، ولكن يدرك الإنسان بتأمل قليل أن التوراة ذكرت هذا الحادث كحادث عادي. والحكمة في ذبح مثل هذه البقرة هي إزالة الشرك من قلوب بني إسرائيل، ووقايتهم من تأثير الأمم الأخرى، وربما لهذه الحكمة سُمِّي الماء الذي خُلط به دماء البقرة ماء نجاسة..أي غُسل به نجاسة الشرك وحُفظوا منه. فلو أنهم استمروا في ذبح مثل هذه العجول والبقر التي كان يعبدها المصريون لزال من قلوبهم نجس الشرك.
لقد جاء في كتب الحديث اليهودية هذا الحادث بتفصيل أكثر مما جاء في التوراة. فقد ورد في (مثتا) باب كامل عن الحادث. ووردت رواية عن الربِّى (نسيس) أنه لم يوجد بعد موسى عليه السلام بقرة بتلك المواصفات (موسوعة الكتاب المقدس). وفي هذا البيان من أحاديث اليهود تصديق كامل لما ورد في القرآن من أن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة خاصة تتميز بجمال غير عادي وبعلامات معينة لا تتوفر في كل الأزمنة.
وقوله تعالى: (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) إشارة إلى أن الاستهزاء والسخرية في أمور الدين من شأن الجهال. والأسف أن الكثير من الناس لم يفهموا هذه الحقيقة، فتقسو قلوبهم بالضحك من أمور الدين وعدم الجدية فيها.





|قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ
شرح الكلمات:
فارض:فَرُضت البقرةُ: كبرت وطعنت في السن. لا فارضٌ ولا بِكر: لا مُسنة ولا فتية (الأقرب).
بِكر: البقرة الفتية(الأقرب). وبكر في قوله تعالى: (لا فارض ولا بكر)..هي التي لم تلد)(المفردات).
عوانٌ: النَصَف. أي الشابة المكتملة الشباب(الأقرب).
التفسير:
أمرهم الله تعالى بذبح بقرة أيةً كانت، فبدأ اليهود يسألون عن علاماتها، لأن قلبهم كان يخشى على عجلهم المحبوب. فقال الله تعالى:( إنها لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون)..أي لا تعرضوا أنفسكم للإحراج والإذلال بكثرة السؤال. لكن اليهود لم يمتنعوا.


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
شرح الكلمات:
صفراء فاقع: فَقع لونه: اشتدت صفرته. الفاقع: الخالص الصفرة؛ الخالص الصافي من الألوان أي لون كان. والمشهور أنه صفة للأصفر(الأقرب).
التفسير:
رغم الإشارة الإلهية بأننا نستر عليكم فلا تهتكوا ستركم بالأسئلة فلم تنفكوا عنها بل مضيتم تسألون. فقلنا إنها بقراء صفراء فاقع لونها تسر الناظرين....
قوله تعالى: (تسر الناظرين). من قواعد اللغة العربية جواز استعمال فعل للمضاف بحسب المضاف إليه تذكيراً وتأنيثا. ولما كانت كلمة (لون) مضافة إلى الضمير (ها) العائد إلى البقرة..جاء الفعل (تسر) بصيغة التأنيث بحسب الضمير (ها)، وقال: تسر الناظرين؛ والمعنى: يسر لون البقرة الناظرين.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً بالمعنى، ،أي: تسر صفرتها الناظرين، لأن المراد باللون الصفرة.
ويجوز أيضاً أن يكون الضمير عائداً إلى البقرة، أي البقرة تسر الناظرين، فالجملة صفة أخرى للبقرة.


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
شرح الكلمات:
تشابه: تشابه الرجلان: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا(الأقرب).
التفسير:
لم يتوقف اليهود عن السؤال، وطلبوا علامات أخرى للبقرة. ولما كانوا يشكون أن الله تعالى يريد بقرتهم المعظمة، قرروا في نفوسهم أنهم إذا أمروا بذبحها فسيذبحون، ولذلك قالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون).


قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
شرح الكلمات:
مسلَّمة: سلّمه الله من الآفة: وقاه إياه(الأقرب). فمعنى مسلمةٌ أنها سليمة من المرض والعيوب.
شِيَة: وشيت الشيء وشياً: جعلت فيه أثراً يخالف معظم لونه(المفردات). شيةٌ: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره(الأقرب). فمعنى (لا شية فيها) أنها ذات لوان واحد لم يخلطه لون آخر.
التفسير:
قال الله تعالى: إن هذا العجل لم يستخدم للحراثة ولا للسقي..أي مُعفى من العمل تعظيماً له وتكريماً، ولا يؤذيه أحد ولذلك ليس به أثر لجرح أو ضرب. وهذا وصف للثيران التي يعظمها الناس تعظيماً عقائدياً. وهكذا بين الله تعالى كل علامات ذلك العجل المحبوب. فقالوا: الآن جئت بالحق، أي لقد صدق حدسنا بأن الله يقصد هذا العجل. والواقع أن قول الله تعالى كان حقا من قبل ومن بعد. كان الله يريد أن يروج فيهم ذبح البقر دون أن يهتك سترهم، وأن يذوب هذا الشرك من قلوبهم شيئاً فشيئاً حتى يزول. ثم بيّن أنهم ذبحوها كارهين.
وقولهم (الآن جئت بالحق) بعد سلسلة من أسئلة لا داعي لها لدليل واضح على أن أفكار الشرك بصدد عجل معين كانت تولدت في نفوسهم. ثم إن اتخاذهم العجل إلهاً عند ذهاب موسى إلى الجبل دليل آخر يؤكد ذلك. ومن الثابت في تاريخ المصريين أنهم كانوا يعبدون العجل الحي ويعبدون تمثاله أيضاً. وكذلك بنو إسرائيل عبدوا العجل تمثالاً ثم أضمروا عبادته حياً.
ثم إن لون العجل أيضاً دليل على تأليههم العجل، لأن التمثال الذي صنعوه كان من ذهب أصفر، وإن كلمة صفراء التي أطلقت على لون البقرة تستخدم أيضاً للذهب. وتاريخ المصريين القدامى يخبر أنهم اعتبروا العجل مظهراً لإله الشمس وهي صفراء اللون كذلك. وهذا دليل آخر على أن لون العجل كان أصفر، وأن اليهود اعتبروه مظهر لإله الشمس. ولو صح هذا القياس لأدركنا بسهولة أن لون البقرة كما ذكره القرآن أنسب من اللون الأحمر الذي جاء في التوراة.
وقوله تعالى (وما كادوا يفعلون) أي كادوا لا يذبحون ذلك العجل لشدة حبهم له..لأنهم تحت تأثير المصريين ظنوا أنه متصف بقدر من الألوهية.
ما أكثر أحكام الله تعالى حكمة! لقد أباح الله تعالى للمسلمين ذبح البقرة كغيرها من الماشية للقضاء على الشرك المتعلق بها والموجود في بعض بلاد العالم حتى اليوم. وللأسف أن بعض المسلمين في البلاد التي تقدس فيها البقرة، كالهند مثلا، يبدون على استعداد للتخلي عن هذا الحق المشروع بدون أي نفع ديني، وهناك غيرهم الذين يخرجون بهذه الحيوانات المعدة للذبح في احتفال يجرح شعور جيرانهم من أتباع دين آخر. وكلا العملين باطل غير جائز.


 

خطب الجمعة الأخيرة