loader
 

السؤال: إذا كان الإنسان كما يقول القرآن "فطرة الله التي فطر الناس عليها" وكما ورد في الحديث يقول الله "خقلت آدم على صورتي"فإذا كانت فطرة الله هي الفطرة سليمة فلماذا يميل الإنسان إلى الشر أكثر من الخير ؟ ولماذا "قليل ما يؤمنون"؟ ولماذا "الظلم أكثر من العدل"؟

يميل الإنسان نحو الخير اكثر من ميله نحو الشر. بيد أن الناس يروْن الشرّ بصفته أكثر بروزا وتأثيرا. وهناك مثل عندنا يقول(مجنون يرمي حجر في بئر، فإن ذلك بحاجة إلى مائة عاقل حتى يخرجوه). فالشر أكثر أثرا على الواقع، والدمار أسهل من العمار. خذ مثلا طلاب صفّ مدرسي؛ فقد يكون أحدهم مشاغبا، فيظهر أن الصف كله مزعج.
لكن لو قمنا بإحصاء عمل الخير لوجدناه آلاف أضعاف عمل الخير، حتى عند الرجل الشرير، فمن من الناس لا يساعد الغريق؟ ومن لا يساعد العجوز في قطع الشارع؟ ومن لا يتألم لتعذيب الأبرياء ويحزن؟
خذ أيّ إنسان كمثال، وقم بإحصاء عدد أعمال الخير وعدد أعمال الشر، فستجد الخير آلاف أضعاف الشر.
خذ ما يجري في أحد الأسواق من عمليات تجارية وترحابية وتعارفية، فهذه كلها أفعال خير، لكن لو حدثت مشاجرة في يوم واحد في السنة، فإنها تكون حديث الناس لفترة طويلة.. إذن الخير أكثر بكثير، لكن الشر أكثر ظهورا.
إذن الإنسان مخلوق على فطرة الله التي فطر الناس عليها، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغويه أحيانا، لأن التقيد بالخير بحاجة إلى جهد، وهو يميل إلى الاستسهال.




لقد خلق الله نفس الإنسان طاهرة زكية، وخلقها على فطرته التي تتعلق بالله تعالى وتعرفه وتستطيع التعرف على مسالك مشيئته ورضوانه. وقد جعل الله هذه النفس قابلة لعمليتيْن؛ الأولى هي التزكية وهي تعني التطهير والقابلية للتنمية والزيادة، والثانية هي الدس أي قابليتها للتأثر بالبيئة المحيطة التي تعمل على إفسادها وتشويهها وتلويثها، وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، ولا بد من ملاحظة أن أمر التزكية هو أمر داخلي، بينما الدس والتشويه هو مؤثر خارجي أو تلوث؛ كأن الإنسان يضع شيئا غريبا ويدسه في شيء لا ينتمي إليه.
ومن المعروف أن عملية المحافظة على النفس وتزكيتها وتنميتها وتطهيرها هي عملية تتطلب جهدا وحرصا دائما، بينما يكفي أن تتلوث النفس وتفسد بمجرد الكسل والإحجام عن التزكية أو تركها دون محافظة، هذا ناهيك عن قيام كثير من الناس بدس نفوسهم وتشويهها والتمادي في هذا الأمر على نحو خطير وبذل جهد سالب في هذا الأمر. وهذا هو السبب في أن أكثر الناس لا يؤمنون ولا يشكرون.
أما كون النفس البدائية أمارة بالسوء، فهو أمر يدل على نتيجة ولا يدل على طبيعة. فطبيعة النفس هي الطهارة والنقاء، بينما انحرافها نحو الأمر بالسوء هو نتيجة لتلوثها وتعلقها بعوامل البيئة المحيطة. فتتميز النفس بخاصية التعلقية أوالتعشقية (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، فهي تميل إلى التعلق والتعشق، وهذا التعلق والتعشق خُلق فيها لكي يجعلها تنجذب لله تعالى وتتصل به، إلا أن هذه الخاصية غالبا ما تتعلق أو تتعشق بعوامل البيئة المحيطة الملوثة من لغو ولهو وآثام. إلا أن طبيعة النفس النقية تظل دائما تبزر من خلال النفس اللوامة التي تدفع نحو عدم طمأنينة الإنسان بالانحراف عن طبيعة نفسه وتحاول أن تردعه عن الآثام. فلو كانت النفس أمارة بالسوء في طبيعتها لما وجد عند الناس أثر للنفس اللوامة.
ونتيجة مشاهدة أن أكثر الناس يميلون إلى الشر والإثم، فقد نشأ الظن الخاطئ بأن النفس الأمارة هي أصل النفس الإنسانية، وأن الإنسان خاطئ بطبعه. وهذه العقيدة هي من أهم العقائد المسيحية الأساسية؛ حيث تعتبر الإنسان آثما وارثا للإثم من أبوية ولا سبيل لخلاصه منه بنفسه، كما لم تنجح بعثة الأنبياء في منع الإنسان من السقوط في الإثم أو التأثير في طبيعته الآثمة، بل إن الأنبياء أنفسهم قد وقعوا في الإثم! إن هذه الفكرة المسيحية هي فكرة فاسدة تماما وهي ناجمة عن جهل وعدم معرفة بالنفس الإنسانية وطبيعتها، بخلاف ما يوضحه القرآن الكريم ويقدم عليه كثيرا من الدلائل. وخطورة هذه الفكرة تنجم من أن الطبيعة الفاسدة للإنسان لو كانت هي الأصل فإنه يصبح مستحيلا تحويل الإنسان إلى إنسان طاهر نقي. بل إن كل طهارته ستكون طهارة خارجية غير منسجمة مع طبيعته، مما يجعل طبيعته الفاسدة تطل برأسها دوما. وهذه الطهارة إن حدثت جدلا، فإنها لن تنمو ولن تتطور لأنها لن تكون أكثر من عملية استئصال أو طمس لنفس فاسدة. بخلاف مفهوم التزكية الإسلامي أصلا الذي يتضمن التنمية والتطور. وهكذا فإن الإنسان الذي خالف طبيعته لا تكون نفسه قادرة على التعرف على سبل الله الدقيقة كما أنها لا تميل إليها. وقد استنتج بولس هذه النتيجة وهي نفس النتيجة التي استنتجها الشيطان عندما خاطب الله تعالى قائلا: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). فظن بولس أن تقديم الحل الخارجي، والذي هو الفداء، سيكون علاجا سحريا لهذه المشكلة الإنسانية المتأصلة التي يدل عليها كثير من الشواهد.
لقد قدم الرسول صلى الله عليه وسلم مثالا حيا على تزكية النفس، كما أنه قد أنشأ أمة من المؤمنين الذين ساروا على نهجه وعادوا إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها. وما زال الإسلام يقدم الأمثلة الحية على تلك التزكية في هذا الوقت وفي كل العصور.
إن رسالة القرآن الكريم في هذا الأمر للإنسان تتلخص في أنه ما عليه إلا أن يسعى إلى التزكية وسيجد أنه يعود إلى طبيعته التي خلقه الله عليها. تلك الطبيعة هي طبيعة تعرف الله تعالى جيدا وتعرف صفاته، فيكون الإنسان الطاهر العائد إلى فطرته في نعيم مقيم. فيسلك سبل رضوان الله دون أن يحتاج إلى مرشد في كل صغيرة وكبيرة، بل نفسه تصبح هي دليله المتصل بإرادة الله تعالى ومشيئته مباشرة، بشكل فطري طبيعي.

تميم أبو دقة


 

خطب الجمعة الأخيرة