الفائدة للمخلوق وليس لله تعالى الخالق، فالله تعالى هو الغني عن العباد الحميد في ذاته وصفاته العليا، أما المخلوق فهو المحتاج إلى معرفة رَبِّهِ والإرشاد والنجاح في سلّم حياته. أما لماذا أو ما الغاية من خلق الإنسان، فقد وضَّحها الله تعالى بقوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي أن الغاية من الخلق هي عبادة الله تعالى، والعبادة من التعبيد أي صقل النفس كما تُصقل المرآة فتنعكس عليها الصور المختلفة لصفائها ونقاوتها، هكذا يُعبّد الطريق ليصبح صقيلاً تُرى فيه صور المارّة من شدة صفائه، وبهذا الوصف جاء فعل العبادة بمعنى صقل النفس وتعبيدها لتصبح الطريق نقية صافية لتعكس صفات الله ﷻ الحسنى، فكما أن الله تعالى كريم ورحيم ولطيف وودود وحليم هكذا يصبح الإنسان المخلوق صورة معكوسة لصورة أو صفات خالقه تبارك وتعالى، ولا يمكن النجاح في الواقع إلا في هذا السبيل وهو العبادة الحقيقية أي جهاد النفس لتُصقل وتنعكس عليها بسهولة صفات الله ﷻ فيستفيد الإنسان ويفيد من حوله وبالتالي يجذب الآخرين إلى معرفة خالقهم، ولهذا قيل بأن الله تعالى خلق الإنسان على صورته والقصد صفاته الحسنى. فالمستفيد في الواقع هو المخلوق وليس الله تعالى، ولكنه تبارك وتعالى خلق الإنسان لكي ينعم بهذه الصفات ويسعد ويحيا في جنَّة الخلد حين يعبد الله تعالى فينال بعد هذه العبادة الحرية الحقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فلا يصبح أي شيء يستحوذ عليه ويستعبده مثل المال والشهرة والسلطة ونحو ذلك بل كل شيء يصبح خادم الإنسان حين يُعبَد الله تعالى وحده. يقول مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
"فليتضح أنه لمّا كان الإنسان قد خُلق ليعرف خالقه ويبلغ درجة اليقين من أجل الإيمان بذاته وصفاته، فقد فطر اللهُ تعالى ذهن الإنسان ووهب له قوى عقلية بحيث لو ألقى نظرة على صنع الله تعالى مستخدما تلك القوى لوصل إلى كنه حكمة الله عز اسمه الكاملة، وأدرَك ما يوجد من التركيب البليغ والمحكم في كل ذرّة من نظام العالم ولعلِم ببصيرة تامّة أنَّ هذا الكون الواسع المكوَّن من السماوات والأرض لا يمكن أن يوجَد دون خالق، بل لا بد أن يكون له خالق. ومن ناحية ثانية فقد أعطِي حواسَّ وقوى روحانية لكي تسد الخلل أو النقص الذي يمكن أن تتركه القوى العقلية في معرفة الله تعالى، لأنه من البديهي أنَّ معرفة الله تعالى بصورة كاملة بواسطة القوى العقلية وحدها مستحيلة. والسبب في ذلك أنَّ عمل العقل الذي أعطِيه الإنسان مقصور على أن يحكم أنه ينبغي أن يكون لهذا العالَمِ جامعِ الحقائق والحِكم خالقٌ، وذلك بالنظر في السماوات والأرض وما فيهما وترتيبهما البليغ والمحكم. ولكن ليس بوسعه أن يحكم أنَّ ذلك الخالق موجودٌ في الحقيقة. والواضح أيضاً أنَّ الإحساس بضرورة الصانع أو الخالق لا يُعدُّ معرفة كاملة إلا إذا بلغت مبلغ اليقين بأن ذلك الصانع موجودٌ في الحقيقة، لأن القول إنه ينبغي وجود خالق لهذه الأشياء لا يساوي قَطّ القول بأن الخالقَ الذي اعتُرف بضرورته موجود فعلاً. لذا كان الباحثون عن الحق -لإتمام سلوكهم ولأداء مقتضى الفطرة المترسخ في طبائعهم من أجل المعرفة الكاملة- بحاجة إلى أن يعطَوا القوى الروحانية أيضاً علاوةً على القوى العقلية لكي يقدروا -إذا استخدموا القوى الروحانية كما ينبغي ولم يحجبها حجاب- على الكشف عن وجه الحبيب الحقيقي بوضوح لَمْ تقدر على كشفه القوى العقلية. إذن، فإن الإله الكريم الرحيم كما جعل فطرة الإنسان تجوع وتتعطش من أجل معرفته الكاملة، كذلك فقََدْ أودع فطرة الإنسان نوعينِ من القوى بُغية إيصاله إلى تلك المعرفة الكاملة: إحداهما القوى العقلية التي مصدرها الدماغ، والثانية هي القوى الروحانية التي مصدرها القلب والتي يعتمد نقاؤها على نقاء القلب. والأمور التي لا يمكن للقوى العقلية أن تكشفها بصورة كاملة فإن القوى الروحانية تبلغ كنهها. والقوى الروحانية إنما تملك القوة الانفعالية فحسب، أي خلق الصفاء والنقاء حتى تنعكس فيها فيوضُ مبدأ الفيض. لذا يُشترَط لها بالضرورة أن تكون مستعدة لجذب الفيض حتى تنال فيض معرفة الله الكاملة، وألا يحول دون ذلك حائل أو عائق، وألا تقتصر معرفتها على أنه يجب أن يكون لهذا العالم المليء بالحِكم صانع، بل تكون محظوظة بالمكالمة والمخاطبة الكاملة مع هذا الصانع وتشاهد آياته العظيمة مباشرة وترى وجهه الكريم وترى بعين اليقين أنَّ هذا الخالق موجودٌ في الحقيقة." (حقيقة الوحي)