سيتوفر قريباً إنْ شاءَ الله تعالى على موقعنا، وهو ضمن "التفسير الوسيط" الذي هو حالياً قيد التدقيق والمراجعة.
يقول سيدنا الخليفة الثاني في معرض جوانب تفسيره لبعض السور عن المدثر:
وقال تعالى في سورة المدثر: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (الآيات:4 - 6) .. أي عليك أن تبتعد عن الشرك كل البعد ولا تُكبِّر إلا ربك، واعلمْ أن إله المشرق والمغرب إله واحد لا شريك له، فعليه توكَّلْ.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر:2 - 4)، أي: يا من تدثَّرتَ بخلعة النبوة .. قُمْ ونَبِّه الناسَ وكبِّرْ ربّك. ثم هناك سورة المزمل، وهي من أوائل السور نزولًا، تبدأ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل:2 - 6)، أي: يا مَن تزمّلتَ برداء النبوة .. قُمْ في الليالي لعبادة الله، واقضها في قراءة القرآن، لأننا سنحمّلك مسؤولية لا يسهل حملها.
يتبين من مضامين هذه السور الأوائل نزولًا أنها إلى جانب بيان صفات الله تعالى، والغايةِ من خلق الإنسان، وضرورةِ عبادة الله، وذكرِ انتشار الشرور والآثام في العالم، وغيرها من المواضيع .. فإنها تحثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدعوة إلى الله، وتسعى لخلق الحماس في قلبه للقيام بذلك، وبعبارة أخرى لقد أعدّتْ هذه الآياتُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لمهمة عظيمةٍ .. مهمةِ النبوة. وواضح أنه من دون هذا الإعداد لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدرك خطورة هذه المهمة التي سيُعهد بها إليه، كما لم يكن ليؤديها حق الأداء. وإذًا، كانت هناك في البداية ضرورة لمثل هذا الوحي. ثم بعد هذا كانت هناك حاجة لبيان صفات الله تعالى، وضرورة النبوة، ومواضيع التقوى والطهارة، وأهمية الدعاء، ومسائل القضاء والقدر والبعث بعد الموت .. إذ لم تكن هناك جماعة قد تكونت بعد، ولم يكن الدين قد اكتمل، فكان من الضروري أن تُذكَر للناس بإيجاز أمور أساسية هامة .. كي يعرفوا هذه المبادئ التي تميز الإسلام عن الديانات الأخرى.
باختصار، كان لا بد من فترة بين الوحي وبين إعداده - صلى الله عليه وسلم - للوحي، ومن أجل ذلك أنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أولاً سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ثم بعد فترة أنزل سورة المدثر وغيرها التي حملت إليه رسالة وبشارات تتعلق بالمستقبل، وتنبئه أن مهمة عظيمة سوف تُفوَّض إليه، فليستعدّ لها. كان على عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعدّ لهذه المهمة بمعرفة نوعيتها ونوعية الجهود التي كان عليه أن يبذلها في سبيلها. من المحال أن يتلقى الوحي ثم يقال له اذهبْ أو قُمْ ونفِّذْ هذه المهمة، بل كان لا بد من فترة إعداد في كل حال.