ما علينا أن نؤمن به هو أن الله تعالى كل شيء قدير وهو سبحانه قادر على إراءة الناس كشفاً يتكلم فيه الرضيع فيحسبه فريق منهم قد تم فعلاً ويحسبه آخر بأنه علامة على القرب الإلهي لهذا الشخص الذي سيكبر ليصبح من أنبياء الله تعالى ورسله. فإذا كان الكشف قد تم فعلاً فهو دلالة على عناية الله تعالى وقربه لرسله منذ ولادتهم. أما التفسير البسيط لظاهر النص فهو أن قوله تعالى [كيف نُكلّم مَن كان في المهد صبيًّا] مريم: 30، معناه الشباب وليس الرضاعة، فالصبي تطلق على الطفل الكبير أيضاً وكذلك تطلق على الشاب بين كبار القوم، وفي هذا يشرح المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أما قول الله تعالى [وآتيناه الحكمَ صبيًّا] فيعني أن الله تعالى قد شرّفه بقربه وهو صغير. بمعنى أن الوحي بدأ ينـزل عليه وهو لا يزال صغيرًا في أعين القوم، بدليل قولنا: إن فلانًا وليد الأمس، إذ لا يعنون بذلك أنه طفل رضيع. ثم إن الصبي يعني الشاب أيضًا.
الغريب أنه قد جاء في ذلك الزمن نبيّانِ الواحدُ بعد الآخر، وقد استخدم القرآن لكل واحد منهما كلمة [صبيًّا]. يخبرنا الله تعالى أن أمّ عيسى ؏ لما جاءت به قومَها قال لها اليهود [كيف نُكلّم مَن كان في المهد صبيًّا] (مريم: 30). وهذا يعني أن الناس سموا عيسى صبيًّا، وأما يحيى فسماه الله صبيًّا. وذلك ليشير إلى أنه إذا كان كلام عيسى ؏ في صغره معجزة فإن يحيى أيضًا كان موصوفًا بهذا الوصف حيث قال الله عنه [وآتيناه الحُكم صبيًّا].
بل هناك فرق بينهما وهو أن الذين سمّوا المسيح عليه السلام صبيًّا هم اليهود، ولكن الله تعالى نفسه قد سمى يحيى صبيًّا. فإذا كان المسيحيون يعظّمون المسيح بسبب كلمة قالها أعداؤه في حقه، فلم لا يعظّمون يحيى بسبب الكلمة نفسها خاصة وإن الله تعالى هو الذي قالها في حقه لا الأعداء. لا شك أن الله تعالى قد قال عن المسيح [يكلّم الناسَ في المهد وكَهْلاً] آل عمران: 47، ولكن فيما يتعلق بتسميته [صبيًّا] فلم يطلقها على عيسى إلا الأعداء.
وكما أن قوله تعالى [وآتيناه الحُكْمَ صبيًّا] يمثّل لومًا للمسيحيين بأنهم إذا كانوا يعظّمون المسيح لكونه غالبًا على أعدائه منذ صغره فلم لا يؤتون يحيى العظمة نفسها وقد حظي هو الآخر بقرب الله تعالى منذ الصغر، كذلك قد عُقدت في قوله تعالى [وحنانًا مِن لَدُنَّا وَزَكَاةً وكان تقيًّا] المقارنة بين المسيح ويحيى نظرًا إلى تعليم المسيح. يركّز المسيحيون على أن المسيح علّم الرفق والحكم والعفو، فيرد الله تعالى عليهم بأن يحيى أيضًا كان متصفًا برقة القلب والرفق والحلم. فإذا كان الرفق والحلم سببًا لعظمة عيسى فإن يحيى أيضًا كان عظيمًا مثله لاتصافه بالصفة نفسها.
إذًا فالله تعالى قد فنّد في هذه السورة مزاعم المسيحيين بذكر كل الأمور التي يستدلون بها على أفضلية المسيح. وإليك بيانها:
أولاً: يقال أن المسيح كان حليم القلب ورءوفًا ومحبًّا للجميع. فردّ الله تعالى عليهم بقوله إن يحيى أيضًا كان حليم القلب ورءوفًا ومحبًّا للجميع.
ثانيًا: يقال أن المسيح قد أتى بشرع جديد، فيقول الله تعالى لقد أمرنا يحيى هو الآخر بأخذِ الكتاب بقوة.
ثالثًا: يقال أن المسيح تكلم وهو صغير، وهذا دليل على أفضليته، فيقول الله تعالى إننا جعلنا يحيى مأمورًا من عندنا وهو صغير، وبعثناه إلى الناس.
رابعًا: يقال أن المسيح كان بريئًا من الذنوب، فيقول الله تعالى إن يحيى أيضًا كان مبرأً من الذنوب حيث قال [وزكاةً].. أي منحناه الطهر والقدس.
لقد وصف الله تعالى يحيى هنا بكل الخصوصيات التي تعزى إلى المسيح ليقيم الحجة على المسيحيين، وقال إذا كنتم تفضلون المسيح على الأنبياء الآخرين بسبب هذه الأمور فلم لا تؤمنون بأفضلية يحيى الذي كان هو الآخر مخصوصًا بها.
وبعد أن وصف الله تعالى يحيى بأنه آتاه [زكاةً] قال الآن [وكان تقيًّا].. أي كان صاحب تقوى وورع. ... إن كل كلمة فيها تنطوي على دلالة معينة. فقوله تعالى آتيناه [زكاة] يعني غير ما يعنيه قوله تعالى [وكان تقيًّا]. ذلك أن الزكاة في العربية تعني إزالة العيوب الباطنة، أما التقوى فيعني إزالة العيوب الخارجية. فالآية تعني أننا منحناه من عندنا الحلم والرفق، وجعلنا أفكاره المختلجة بداخله طاهرة، كما وهبنا لـه القوة ضد المساوئ التي تهاجم من الخارج." (التفسير الكبير)