loader
 

السؤال: هل حفاً حاول النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار كما ورد في صحيح بخاري ؟

هذه الرواية من بلاغات الزهري التي أخرجها البخاري وقد أسيء فهمها فتعثّر البعض بسببها حيث اتخذها خصوم الإسلام مطعنا في نبوة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم..  أما أنه عليه الصلاة والسلام قد همّ بالانتحار فقد نفى سيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتابه (فلسفة تعاليم الاسلام) ذلك وقال:

{كلا، بل كان صلى الله عليه وسلم يعارض بشدة مثل هذه الأعمال العابثة، وإن القرآن الحكيم  يعتبر من ينتحر هكذا مجرما ارتكب جرما عظيما يستوجب العذاب.. فقال: (ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة) البقرة:196.. أي لا تنتحروا، ولا تتسببوا في هلاككم بأيديكم..}  ( فلسفة تعاليم الاسلام)

كما تطرق سيدنا الخليفة الثاني بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه في معرض تفسيره للقرآن الكريم لهذه الرواية التي أوردها البخاري رواية ودراية فاعتبرها كشفا يصوّر افكاره صلى الله عليه وسلم وخواطره عند ارهاصات بداية الوحي وما يتصل بثقل الرسالة ومهام النبوة الملقاة على عاتقه فقال:

}أما فيما يتعلق بمحاولة النبي صلى الله عليه وسلم- الانتحار، فأولا: اعلم أن الأحاديث الأخرى لا تصدّق ذلك. وثانيا: لو سلّمنا جدلا بصحة ذلك، فإن من الواضح تماما أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعدما فتر الوحي. ولو كان في قلبه أدنى شبهة أن الشيطان هو الذي قد نزل عليه-والعياذ بالله- أو أنه ليس كلام الله تعالى، فكان ينبغي أن يفكّر في الانتحار عند نزول الوحي عليه، ولكن الحديث يذكر أنه صلى الله عليه وسلم أراد الانتحار بعدما فتر الوحي عنه، مما يبين أنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون الله تعالى قد سخط عليه لسبب ما، فترك الكلام معه ولم ينزل عليه وحيه منذ فترة. لو كان صلى الله عليه وسلم يشك في نوعية الوحي نفسه فكان ينبغي أن يفرح عند فتوره وانقطاعه عنه، ويقول الحمد لله بأن قد دُفع البلاء عني. ولكن الروايات متفقة على ان النبي صلى الله عليه وسلم أصيب بهذا القلق بعدما فتر الوحي عنه، مما يدل أنه لم يكن يشك في صدق الوحي النازل عليه. وإنما خاف أن يكون الله تعالى قد سخط عليه لسبب ما. وارى لزاما عليّ أن أذكر هنا أنني قدّمتُ تأويلا لحادث الانتحار لأردّ على طعن الكتّاب الغربيين في نبينا صلى الله عليه وسلم، بيد أن هذا الحادث مذكور في الأحاديث الصحيحة، لذا لا يمكن إنكاره كلية. بيد أني أرى أن الناس قد اخطأوا في فهمه فتعثّروا وسببوا العثار للآخرين. لقد ظنوا أنه حادث مادي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حاول الانتحار فعلاً بإلقاء نفسه من شواهق الجبال، فكان جبريل يناديه ويمنعه من ذلك قائلا إنك رسول الله حقاً، فكان يمتنع ويرجع إلى بيته. الحق أنه يريد إلقاء نفسه من فوقها، فكان الملاك يناديه وينهاه عن ذلك مؤكداً له أنه رسول الله حقا. الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في تفكير مستمر فيما أنيط به من المهام فكان يقول في نفسه مرة بعد أخرى: كيف أؤدي هذه المهمة العظيمة الصعبة! لعلي أقصّر في أدائها فأثير غضب الله علي، فكان الله تعالى يكشف أفكاره عليه في حالة الكشف فكان يرى وكأنه على قمم الجبال ويريد إلقاء نفسه من فوقها، ولكن الملاك كان يناديه قائلا: يا محمد إنك رسول الله حقا، وستنجح في مهمتك حتماً، لأن الله هو الذي أقامك لهذا الهدف.

باختصار ليس هذا الحادث ماديا عندي، بل هو كشف يصوّر أفكار النبي صلى الله عليه وسلم وقلقه بصدد المهمة المناطة به. الواقع أنه من رأى في الرؤيا أنه ألقى نفسه من فوق جبل وأنه قد سقط فعلاً، فتأويله أنه سيظهر له أمرٌ سيء يدمّره، ولكنه لو رأى أنه سقط من الجبل ولم يمت، فتعبيره انه قد ارتكب خطا كبيرا، او انه سيقوم بعمل كبير، فتصيبه صدمة كبيرة، ولكنه لن يهلك. ومن رأى انه على وشك ان يسقط من الجبل ولكن الملاك يُطمئنه، فتأويله أنه سيقوم بعمل عظيم فيه الهلاك في الظاهر، ولكنه لن يهلك بل سيكون النجاح حليفه. وكما قلت لو اعتبرنا هذا الحادث ماديا فهو دليل على خشية الرسول لربه عز وجل، وإذا لم يفعل ذلك عند نزول الوحي، بل عند انقطاعه، مما يدل دلاله واضحة أنه خاف أن يكون الله تعالى قد سخط عليه لبعض ما فعل فترك الكلام معه، لكن الحادث ليس ماديا بدليل ظهور الملاك للنبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة وتبشيره إياه بالنجاح. والدليل الثاني أن القرآن لم يذكر هذا الحادث مطلقا}  انتهى- 

 (التفسير الكبير  ج9 تفسير  سورة العلق.(

 


 

خطب الجمعة الأخيرة