loader
 

خروج الدجال بين التمسّك بالحرفية وضرورة التأويل..3

  التعليم القرآني في تأويل النبوءات

يتبيّن من خلال دراسة بحث المسيح الدجّال في أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله تعالى قد أطلع محمداً عليه الصلاة والسلام على الأحداث المستقبلية المتعلّقة بخروج الدجّال من خلال الرؤى الصادقة، كما روى هو صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، حيث نقرأ ألفاظه التي تشير إلى رؤياه في أحاديثه تلك إذ يقول:

(.. وأراني الليلة عند الكعبة في المنام .. ثم رأيت وراءه رجلاً جعداً .. فقلت من هذا قالوا: المسيح الدجّال). صحيح البخاري،كتاب الرؤيا
ثم إنّ تصنيف هذا الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرؤيا، يلفت إلى أنّ إخبار الله تعالى للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجال وخروجه قد كان عن طريق الرؤى الصادقة التي يُطلِع اللهُ من خلالها رسله على ما يشاء من الغيب.

وكذلك يتبيّن من قصّة تميم الداري في حديث رسول الله صلى الله عليـه وآله وسلم أنها لا يمكن أن تكون إلاّ رؤيا، وذلك بدلائل وبراهين سنبيّنها فـي موضعها، حين نكشف النقاب عن حقيقة مفهوم الدّجال وبيان كيف أنه آية من آيات الله عز وجل.
وثمة المزيد أيضاً من الأحاديث الصحيحة التي تؤكّد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عَلِم خروجَ الدجّال وفِتَنِه من خلال الرؤى الصادقة، ولكن يكفينا - تجنّبا للإطالة - هذا الحديث الصحيح للبرهان على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حدّثنا عن المسيح الدجّـال وفِتَنِه من خـلال ما أوحى الله إليه في الرؤيا الصـادقة لينذر أمّتـه ويحذّرهم من شرّ أشدّ الفِتَن التي هي فِتَنة المسيح الدجّال.

* التعليم القرآني في سورة يوسف

وليس من المستغرب في سِيَر الأنبياء أن يُطلعهم الله على الغيب عن طريق الرؤى الصادقة، إذ أننا نقرأ في القرآن الكريم ما أخبرنا به الله عَزَّ وجلَّ عن النبي يوسف عليه السلام الذي أراد أن يبشّره بالنبوة وتمام النعمة، وأنّ أباه وأمّه وإخوته سيتبعون هَدْيه ويصدّقون بدعوته، وأنّ شأنه سيعلو في البلاد والعباد، فيُبيّن لنا الله تعالى في القرآن الكريم أنّه عندما أراد أن يُخبر يوسـف بتلك الأنباء الغيبية العظيمة، أطلعه على ذلك من خـلال الرؤيا، ولكن ماذا كانت تلك الرؤيا وكيف تحققت؟

نقرأ في القرآن الكريم إخبار يوسف لأبيه عن رؤياه، حيث يقول تعالى في سورة يوسف:
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يوسف 5
عَلِم أبوه النبي خطورة وأهمية النبوءة المستقبلية في رؤياه فنصحه بكتمانها:
{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الآية 6
ثمّ بشرّه من خلال علمه بتفسير الرؤى الصادقة وقال له:
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الآية 7
وهكذا نتأكد من أنّ القرآن الكريم يُعلّمنا أنّ إحدى طرق الوحي للأنبياء هي الرؤيا الصادقة التي لابدّ من التصديق بها. ولكنّ السؤال الهامّ والهامّ جداً هنا هو: هل يُلزِمنا التعليم القرآني بالأخذ بحرفية هذه الرؤى، أم أنّه لابدّ من التأويل الصحيح لها إذا كانت حرفيتها تتناقض مع الأسس العقلية والعلمية للمنطق البشري السليم؟

* القرآن مؤسس علم التأويل

حين نقرأ في القرآن الكريم تفسير رؤيا يوسف نجد أنه، بكل بساطة ووضوح، يرفض الحرفية رفضاً باتّاً، ويؤيّد منطق التأويل الصحيح الذي يبيّنه العالمون بتأويل الرؤى الصادقة، التي أطلق عليها القرآن الكريم مصطلح "تأويل الأحاديث". وبذلك يكون القرآن الكريم ذاته هو المؤسس العظيم لعلم تأويل الرؤى الصادقة، باعتبارها مصدراً من مصادر الوحي للأنبياء، والتي لابدّ أن تُفهم على ضوء الأساس القرآني في تأويل الرؤى، فيستطيع الناس عندئذ أن يهتدوا بهداياتها الحقّة التي لا خرافة فيها ولا منافاة للعقل والمنطق السليم.
وتأكيداً للإيضاح ندرس رؤيا يوسف عليه السلام وكذلك تأويلها على ضوء بيان القرآن الكريم.

يقول ربنا تبارك وتعالى عن تلك الرؤيا:
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يوسف 5
تُشير هذه الرؤيا إلى مشهد واضح أراد الله أن يطلع - من خلاله - نبيَّه يوسف على بشارة مستقبلية تتعلق به وبأهله وبدعوته. وسنرى فيما إذا كان يمكننا موافقة المصرّين على الأخذ بحرفية رؤى الأنبياء أم يستحيل ذلك.
إذا كانت الحرفية هي الأساس الذي يجب أن نبني عليه فهمنا لهذه الرؤيا، فهذا يعني أنّ كلّ كلمة أو صورة فيها يجب أن تتحقق بشكل حرفي مادّي، وهذا يعني أن ما يجب أن يحصل في المستقبل هو: أن يرى يوسف عليه السلام نفسه قد كبر وكبر في الحجم حتى صار عملاقاً كونياً يفوق في حجمه المجموعة الشمسية بكاملها، ثم يجد أنّه يستطيع - بالإضافة إلى ذلك - أن يقف في فضاء الكون بشكل ما حتى تتمكن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً من السجود عند قدميه، وبذلك تكون الرؤيا الصادقة التي أوحى الله بها إليه قد تحقّقت كاملة وبحرفيتها!
فهل ثمة عاقل واحد في الكون يستطيع أن يقبل إمكانية هذا التحقق الحرفي لرؤيا النبي يوسف عليه السلام لمجرّد الاعتقاد بأنّ رؤى الأنبياء وحي صادق من الله تعالى؟!
ثم لماذا لا نأخذ بتعليم القرآن الكريم ذاته في هذا الشأن، ونسأل أنفسنا هل أراد الله بتعليمه لنا في هذه السورة أن نُصـرّ - مع المُصِرّين - علـى حتمية الأخذ بحـرفية رؤى الأنبيـاء مهما خالف ذلك العقل والمنطق السليم؟
حتماً لا.
فلقد بيّن لنا ربنا عز وجل تأويل الرؤيا في كتابه المجيد ذاته، وأكّد أنه كان لابدّ من فهم تلك الرؤيا الصادقة بتأويلها السليم، وإلاّ فإنها ستكون مجرّد خرافة باطلة لا هَدْي فيها ولا تعليم؛ فماذا كان التأويل القرآني لتلك الرؤيا؟
يقول القرآن الكريم:
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} يوسف 101
قبل أن نعمد إلى بيان التفسير القرآني لهذه الرؤيا يفيدنا أن نلفت النظر إلى رموز مادية معيّنة استخدمها القرآن الكريم ليشير بها إلى حقائق روحية هامّة.
من هذه الرموز: (الشمس).
نقرأ في القرآن الكريم أن الله عز وجل قد جعل في سمائنا المادّية شمساً وهّاجة تنير لنا نهارنا بشكل مباشر، وتنير لنا ليلنا بانعكاس أنوارها من خلال القمر. قال تعالى عن الشمس في سورة (عمّ):
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} النبأ 14
فالشمس هي سراج السماء الدنيا.
وحين نذكر قولَ الله تعالى في وصفه لرسوله الكريم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} الأحزاب 47 نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أيضاً الشمس في سماء الدين، وأنّ علماء الدين من أصحابه هم النجوم الذين يدورون في فلكه، لذا فقد وصفهم هو ذاته في حديثه الشريف بالنجوم، حيث قال:
(إنّ مثل العلماء في الأرض، كمثل النجوم في السماء).
عن أنس في مسند الإمام أحمد.
وقد ورد عن رسول الله قوله: (أصحابي كالنجوم) / البيهقي
وهكذا يكون النبي شمساً في سماء الدين، وأصحابه الذين يدورون في فلكه نجوماً .
بهذه المفاتيح القرآنية نستطيع فهم بيان النبوءة في رؤيا يوسف عليه السلام. ولكي نفهمها بسهولة أكثر، يفيدنا أن نلاحظ وجود عناصر معيّنة في الرؤيا يجب أن يقابلها عناصر في التأويل.

والعناصر في رؤيا يوسف هي:
1) الشمس
2) القمر
3) أحد عشر كوكبا
4) سجود الكواكب ليوسف عليه السلام.
والآن ما هي العناصر المقابلة في التأويل بحسب ما جاء في القرآن الكريم؟ يقول تعالى:
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} يوسف 101
فما هي العناصر المقابلة للرؤيا هنا؟
- مقابل الشمس نجد النبي يعقوب..
- ومقابل القمر نجد أمّ يوسف التي هي زوج النبي يعقوب وهي التي تدور في فلك زوجها كالقمر وتعكس أنواره..
- ومقابل الأحد عشر كوكباً نجد إخوة يوسف الأحد عشر الذين يدورون في فلك والديهم.
وأمّا السجود فيعني الطاعة والاتّباع كما في قوله تعالى:
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الرحمن: 7
وهذا يعني الخضوع التام لهذه المخلوقات وغيرها لأمر الله عز وجل.
وهكذا لا نرى سجوداً للشمس أو القمر أو النجوم عند قدمي يوسف، فقد كانت الشمس في الرؤيا ترمز إلى والد يوسف النبي يعقوب باعتباره نور الله في قومه؛ والقمر يرمز إلى أمّه التي تستمد نور إيمانها من زوجها النبي؛ وأمّا النجوم الأحد عشر فقد كانت ترمز في الرؤيا إلى إخوة يوسف الأحد عشر الذين كانوا يدورون في فلك أبيهم النبي؛ وذلك مصداقاً لحديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أورده الإمام أحمد في مسنده، يقول:
(مثل العلماء في الأرض، كمثل النجوم في السماء).

كانت الرؤيـا إذَن تُشير إلى وصول يوسف إلى مرتبة النبوّة بفضل الله تعالـى الذي اجتباه وأتمّ نعمته عليـه. كما تُشـير إلـى قبول والدَي يوسف وإخوته لدعوته واتّباعهم إيّاه مصدقين مؤمنين بعد أن جعله الله نبيّاً يدعو إلى عبادته وحده.
وعوداً إلى الآيات من بدايتها نقرأ توبة إخوة يوسـف وقولهـم لأبيهم:
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} يوسف: 98 - 101

إنّ هذا البيان القـرآني الواضـح يبيّن بكلّ تأكيـد أنّ الله عزَّ وجـلَّ قد استخدم الرمز في الرؤيا لإطلاع نبيّه على غيب المستقبل، كما تُبيّن الخطأ الكبير في الإصرار على أخذ جميع النصوص الدينية بالحرفية فتجعل منها خرافة تدعو إلى النفور من الدين بدل قبوله والتصديق به.
إنّ ثمّة من الناس مَن يُكفِّر الدعاة المتفكِّرين الذين يؤمنون بأنه لا يمكن وجود أي تناقض أو تعارض بين العقل والعلم من جهة، ودين الله الحق من جهة أخرى؛ وتكون دعوى هؤلاء المكفِّرين بأنّ عدم الأخذ بحرفية النص، مهما كان مؤدّاها، إنما هو تحريف للدين وخروج عنه واعتداء عليه وعلى المؤمنين به؛ ولذلك هو في نظرهم كفر مبين.

وهكذا فإنّهم بإصرارهم هذا يحيلون الكثير من الكنوز المعرفية في النصوص الدينية إلى خرافات باطلة يرفضها العقل البشري السليم بجميع صورها وأشكالها، ويجمّدون الفكر والحضارة العربية والإسلامية في إسمنت الأفهام الذاتية المغلقة على ما سلف بِعَجَره وبَجَره، ويكبحون التفكّر والإبداع الباني للحضارة الفكرية والتقدّم العلمي والحضاري الواعي الذي يجب أن يُبنى على يقينِ أنّ القرآن هو كلام الله، والكون هو فعله، ولا يمكن، مطلقاً، أن نجد أيّ تناقض بين كلام الله وفعله.

ومن هنا يمكن الانطلاق السليم للتغلّب على التخلّف الفكري والعقلي والعلمي والحضاري الناشئ عن الإصرار على الأخذ بالأفهام الخرافية والخوارقية للنص الديني سواء في أحاديث سـيّدنا رسـول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو في القرآن الكريم، وسواء فيما يتعلّق بخروج المسيح الدجّال وانتشار فِتَنِه، أو غير ذلك من النبوءات النبوية الشريفة.

 


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة