التجلّي مصدر (تجلّ)، وتجلّ الأمر أي ظهر وانكشف واتضح ظهوره وإشراقه قال تعالى :{والنهار إذا تجلّى} (سورة الليل:3) أي ظهر وانكشف بطلوع الشمس. ويُطلق التجلي على ما ينكشف للقلوب الطاهرة والبصائر الروحانية من أسرار الغيب وجَلْوَةِ آثار الصفات الإلهية في كشوف اليقظة أو المنام وما يَرِدُ على الأنبياء عليهم السلام والأولياء المقربين من الله تعالى من واردٍ خلف حجاب سُبحات ذاته النورانية من عوالم المشاهدة اللطيفة ووحي المكالمات والإلهامات الشريفة.
وقد ذُكر لفظ التجلّي في القرآن الكريم في واقعة ذهاب موسى عليه السلام لميقات ربه وتجلي الحق تبارك وتعالى للجبل حيث قال تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف:144)،وكذلك ما عاينه عند جانب الطور بالوادي المقدس حين آنس ناراً وكلّمه ربّه: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى*فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى*إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (طه: 11-13).
وتتفاوت درجات التجليات الالهية بحسب مقامات ودرجات الأنبياء حيث كان للنبي صلى الله عليه وسلم من قوة التجليات الربانية والقدسية كماً ونوعا ما تفرّد به عن غيره، ولعل أعظم تجلٍّ له صلى الله عليه وسلم كان تجلي نزول وحي القرآن العظيم على قلبه وصدره الطاهر وتجليات أخرى متعددة انكشف له فيها من الحقائق والمعارف والأخبار الغيبية كما في قصة عروجه الروحاني العظيم المشار إليه في قوله تعالى: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } (النجم:12-18)،
الحق أنّ التجلي العظيم الذي ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم قد أشير إليه في نبؤات الكتاب المقدس بعهديه كما في (التثنية33 :2) إذ ذكرت سلسة مَطالع تجليات الله لموسى و عيسى عليهما السلام ثم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تلألأ ضياء تجلّيه الموعود من جبال فاران بمكة، جاء في التثنية:
{جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ.}
كما أنبأ النبي داود عليه السلام بكلام مثله حيث اعتبر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة مجيء الله تعالى على سبيل الاستعارة لكون هذا النبي الموعود به هو مظهرٌ أتمّ للألوهية وتجلياتها الجلالية والجمالية. مثلا ورد في نعته:
{أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ. تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. وَبِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ. نَبْلُكَ الْمَسْنُونَة كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِدُهْنِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ} (المزامير 45: 2-7)
أيضا نجد في الإنجيل نبوءة المسيح الناصري عليه السلام عن هذا التجلي العظيم لله تعالى في مثل المزارعين الأشرار وذلك في لغة رمزية تمثل معارضة بني اسرائيل لانبيائهم الذين قتلوا عبيد وخدم رب بيت الكَرْمِ وسعوا لقتل ابنه أيضا،وكيف أنّ صاحب الكَرْمِ سيأتي بنفسه أخيرا أي سيتجلّى الله تعالى بنفسه في مظهر نبي جديد وأمة جديدة لمعاقبة الكرّامين أي بني إسرائيل فيحرمهم من نعمة النبوة ويعطي الكرم لكرّامين آخرين يسلّمون الأثمار في أوقاتها .(أنظر متى21: 33-41)
وجدير بالذكر أن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة و السلام قد سلّط الضوء في كتابيه{سفينة نوح} و {توضيح المرام} عن مظاهر التجلي الالهي والتمثلات القدسية التي حضي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقارنة مع أمثلة تجليات الأنبياء السابقين حيث رسّخ ببيان تام مقامه الأسمى وحقيقة كونه مظهر الإنسان الكامل الذي اتخذ الله تبارك و تعالى من قلبه الطاهر عرشا له. وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه آجمعين.